بلهجته الحجازية الجميلة منح الأغنية نكهةً خاصة.. في كلماتها خبّأ حدائق روحه وحرائق أعماقه، وأودع فيها عذابات عاشق حقيقي تفتنه لحاظ «الفاتنات الأنيقات»، فيضوع شعراً عذباً كأنه الينابيع، بسيطًا كأنه الشموع.. مرور الأنثى العابق على ضفاف القلب يحرضه على هندسة نص يحمل رائحة الفل والحناء «المنقوش» على الأكف الناعمة كالحرير، فيمنحنا البهجة ويسكب في كؤوسنا المسرات.. الأغنية تستحيل على أصابعه عرساً استثنائياً للبوح الطالع من الأقاصي العميقة.. تستحيل مطراً وسيماً يغسل عشب الفؤاد.. كل نص غنائي يكتبه يستحيل غيمة مخبوءة في قميص باذخ، أو غزالةَ عطرٍ تلامس الروح، أو فراشةً من ضياءٍ تدرأ عن النفس ظلمة مخاتلة، أو قطرة َ ندىً تصدُّ عن الأمكنة الحميمة شراسة القيظ وسعير العبوس.. كل كلمة منه تبقى، كل آهة ٍ تزدهر.. كل دندنة منه غواية، وكل مقطع نزهة في يوم عيد.. عندما يكتب نصه الغنائي فكأنما يقيم لنفسه ولنا خيمةً أنيقةً في هذا العراء الفسيح، كأنما يؤثث له ولنا عشّ غيمةٍ نسكنها فنشعر بالأمان والطمأنينة والدفء.. حيث نشعر بالحصانة من عذابات هذه الحياة ومباغتاتها غير السارة.. إنه الشاعر الغنائي الكبير إبراهيم خفاجي .. وردة الشعر الكبيرة العصية على الذبول.. إذ كيف تذبل وهي التي تُسقى بماء العشق الخالص، وبسحب البوح الأنيق؟ كلما أصغيت لأغنيةٍ كتب كلماتها شعرتُ بالحدائق تتنزه في مرايا الروح.. وبالأمل يطرق أبوابنا الصدئة.. وصرختُ كما صرخ الشاعر التركي الفذ ناظم حكمت: «الحياة جميلة ٌ يا صاحبي».. ما جعله قريباً من الناس أنه يكتب السهل الممتنع، البسيط العميق، المحلق في فضاء المشاعر بأجنحة بيضاء، المتوهج في الزمن كماسٍ نفيس، العصي على الترمد والنسيان رغم جريان الكثير من الوقت تحت جسور الزمن! على أكتاف كلماته حمل العديد من المغنين إلى الأعالي (طلال مداح ، ومحمد عبده من الأمثلة الناصعة على ما أقول).. لقد استطاعت كلماته أن تبتكر لهم تلك النجومية المتألقة.. وذلك الصيت الذي لم يخبُ مع الأيام، لقد ملأ غصونهم بالثمار والأقمار.. ومنح أصواتهم الكثير من الأجنحة حتى تسنى لهم التحليق بعيدًا في أفق الغناء الجميل، الغناء الذي يحرك أشجار القلب، ويشرع النوافذ كي تدخل منها النسائم العبقة.. إبراهيم خفاجي ليس عاشقًا للمرأة فقط، بل هو أيضًا عاشق للوطن.. ولهذا تغنى به كما يتغنى فلاح بحقله العامر، وكما يتغنى بحّارٌ بلؤلؤة ٍ ثمينة، وكما يتغنى عاشق بسيدة ٍ حسناء نهبت فراديس الفؤاد.. بشغفٍ أنيق كتب كلمات «النشيد الوطني»، فاستحالت الكلمات تميمةً على كل شفة، وورودًا في الشرفات.. بقي أن أقول: إن ما يستحقه الأستاذ إبراهيم خفاجي أكبر من تكريم احتفالي تزدهر فيه الخطابة وتتنافس فيه المدائح.. إنه يستحق أن يُمنح كل ما يجعل حياته أكثر هناءً ورغدًا.. وما يجعل باله أكثر راحةً وازدهاراً في عمرٍ كهذا العمر الذي يحمل سنواته على كاهله كما لو كان «سيزيف» يحمل صخرته.. ما يستحقه أيضاً هو أن نجمع نصوصه، وأن نصدرها في ديوان ٍ يليق بجماله وعذوبته كيلا تعبث بها رياح الزمن أو يلتهمها جراد النسيان!