عدد قليل ، وإخلاصٌ أقلُّ ، وغفلةٌ أكثر (فأنَّى يستجاب لقومٍ هذا شأنهم؟) سؤال يرد إلى الذهن كلَّما أقيمت صلاة الاستقساء ، وهي صلاة دعاءٍ ورجاءٍ وطلب من الذي يملك مقاليد السماء والأرض ، سؤال يتلجلج في الصدور كثيراً ، ويقال بالألسنة قليلاً ، ولكنه سؤال مهم. أنَّى يستجاب لقوم أقلةِ العدد يتوافدون إلى مواقع صلاة الاستسقاء ومعظمهم حاضر الجسد ، غائب القلب ، مع أنهم الأفضل في المجتمع من حيث استجابتهم ، ومبادرتهم للصلاة. الأيدي ترفع إلى السماء متضرِّعة إلى الله ، فهل ارتفعت معها القلوب وتوجهت النيات خالصةً صادقةً ، وهل حدث في النفس المحتاجة ما يناسب مقام الدُّعاء والتضرُّع من الانكسار ، والخضوع المطلق ، واستشعار عظمة الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى والانشغال به في تلك اللحظة عن سواه. هذا عن الذين غلبوا الكسل ، وذهبوا لحضور صلاة الاستسقاء. فماذا عن أضعاف أضعاف عددهم الذين لم يفكروا في الأمر أصلاً ، ولم يُلْقوا إليه بالاً ، ولم يشعروا بأهميته ، ولم يشاركوا بالدَّعاءِ وهم في منازلهم ، أو مكاتبهم ، أو سياراتهم. الاستسقاء خضوع كامل لله ، وانكسارٌ صادق بين يديه ، وخروج من مضيق غفلة النفس ، وهواها ، ومكابرتها ، إلى فضاءات الإيمان بالله الفسيحة ، وآفاق التضرع إليه الرحبة. الوعدُ بالاستجابة للدعاء قاطعٌ من الله سبحانه وتعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} والاستجابة في الاستسقاء مبادرة مباشرة ، ومعظمنا رأى شيئاً من هذا وأدركه ، أو رواه له من كبار السنِّ من رآه وأدركه ، وأنا حينما أوازن بين وجوه معظم المستسقين في زماننا هذا ووجوه المستسقين في أزمنة ماضيةٍ أيَّام الطفولة والصَِبا ، أدرك الفرق الكبير بين ملامح الفريقين ، فتلك الوجوه المعبِّرة عن إخلاصها بملامحها المفعمة بالخضوع لله ، ولحاها المبللة بدموع الانكسار والرجاء ، تختلف عن هذه الوجوه الجامدة التي لا تمكنك -وأنت تنظر إليها- من قراءة حرفٍ واحدٍ واضح من حروف التأثر والتذلل والانكسار ، أما الدموع فدونها ودون الهطول خَرْط القتاد -كما يقول المثل العربي-. أقول : الوعد بالاستجابة قاطع ، فلماذا يتأخر عن أهل هذا الزمن؟ سؤالٌ معلوم الجواب عند الجميع ، فأين مَنْ يسمع ومن يُطيع؟ مما يُروى أن موسى عليه السلام استمع إلى راعي غنمٍ وهو يدعو ويبتهل ويتضرع يطلب من الله شيئا ، فشعر في نفسه بشفقة عليه ، وخاطب ربَّه في نفسه أنَّ عبدك هذا جدير باستجابة دعائه ، فأوحى الله إلى موسى ، أو ألهمه أن عبدي هذا يدعوني وقلبه عند غنمه. ولما تحقق موسى من أمر الراعي ، حيث اعترف له عليه السلام بأنَّ قلبه مع غنمه ، وجهه إلى وجوب الإخلاص لله وحده ، وتوجيه القلب إليه وحده وقت الدُّعاء ، إذا كان يريد الاستجابة. نحن بأمسِّ الحاجة إلى هذه النصيحة النبوية الكريمة حينما نرفع الأكف بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى ، وهي النصيحة التي وجهها خاتم الأنبياء إلى أمته ، حيث أوصاهم بالإخلاص ، والحزم في الدعاء ، وأن يدعو المسلم ربه وهو موقنٌ بالإجابة. إنَّ اليقين بالإجابة لا يتحقق إلا عند إنسانٍ مخلص في دعائه ، متوجهٍ بمشاعره كلِّها إلى الله سبحانه وتعالى ، منكسر بين يديه ، متجرِّد من كلِّ حولٍ وقوة بشرية ، إلى حول الله وقوته. هنا سيكون لنا مع الاستقساء شأن وأيُّ شأن. إشارة : إلهي ما سألت سواك عوناً=فحسبي العون من ربٍّ قديرِ