أصدرت مجموعة من شبابنا الأسبوع الماضي بيانا أسموه ب “بيان الشباب السعودي”. انتشر البيان سريعا في العالم الافتراضي وحصد أكثر من 2500 توقيع خلال بضعة أيام من إطلاقه. حمل البيان المطالب الخمسة الآتية: 1) ترسيخ قواعد الحوار وآداب الاختلاف والنقد النزيه دون شخصنة المواقف وتحويلها إلى صراعات شرسة تهدف لإسقاط المخالف وتخوينه. 2) مواجهة الأفكار بالأفكار والمشروعات بالمشروعات مع حفظ حق الجميع في تأسيس مشروعاتهم أياً كانت وحفظ حق المخالف في إبداء رأيه دون وصاية أو محاولة فرض الآراء. 3) تعدي مرحلة المعارك المتبادلة ونبذ كل أشكال التحريض والاستقواء بالسلطة والنفوذ لإقصاء الآخر. 4) السعي في بناء مؤسسات مجتمع مدني تستوعب الجميع فالساحة ليست ملكاً لجماعة أو تيار ولا يمكن لأحد أن يدعي احتكار الحق والحقيقة باسم الشريعة. 5) الانطلاق نحو ما يوحد أطياف المجتمع وتعميق كل ما هو مشترك وطني وتوحيد الجهود من أجل الإصلاح وبناء دولة الحقوق والمؤسسات. في نظري، يعد هذا البيان تجسيدا لتطور جديد وعميق يشهده المجتمع السعودي بشكل عام مؤخرا. بكلام آخر، يبدو أن البيان يعبر عن روح جديدة بدأت تعم فئات اجتماعية متنوعة. وسأجازف وأقول إن هذه الروح هي تطور تاريخي، أي تطور لا عودة عنه إلى الوراء، بل يمهد لما بعده. إنه يعبر عن حالة ارتقاء تاريخي، حالة تقدم تدفع بالمجتمع لتجاوز مرحلة ما إلى مرحلة أكثر تقدما. يمكن التعبير عن هذا التطور، أو عن هذه الروح، بالآتي: الوصاية والتحريض اللذان كانا عماد المجد والنجاح لأفراد وتيارات في الماضي أصبحا يُخْسِران أصحابهما في الحاضر. كأنما المجتمع بدا يشب عن طوق الوصاية. أو كأنما هو بدا يتعب من التحريض والاحتراب الفكري الدائم. هذا تطور مُستحق ومنتظر، بالنظر إلى التطور الاتصالي الكبير الذي يعيشه المجتمع، كما يخبر بذلك الاستخدام المكثف لمواقع التواصل الاجتماعي مثلا. لكن وقبل الخوض في عوامل هذا التطور، لنلتفت إلى طبيعة المشهد الفكري والثقافي في السعودية خلال العقدين الماضيين. نلحظ أن بعض الأسماء الفكرية بنت مجدا جماهيريا من خلال التحريض ضد أي مخالف. لم يقتصر التحريض على تيارات فكرية فقط بل طال، وفي الحقيقة تمحور حول، أنشطة إبداعية مثل الرواية والشعر والتمثيل. في العادة، فإن هذه الأنشطة تكون بعيدة عن السجال الفكري. لكن في حالتنا المحلية فإن التحريض، الذي يتغذى بنسغ الوصاية، انصب على الأنشطة الإبداعية. بنى أفراد مجدهم الشخصي على الوصاية والتحريض فأصبحوا نجوما يشار إليهم بالبنان. وعلى مدى عقدين من الحضور المتواصل، فإنك إن نقبت في الإنتاج الفكري لبعض هذه الأسماء ستجد أن أهم مكونات هذا الإنتاج، أو سبب تبوؤ النجومية، هي مفاصل تحريضية أو وصائية. يبدو وكأن المجتمع نفسه كان يخشى التعاطي المباشر مع هذا المفكر أو ذاك، مع هذا المبدع أو ذاك، فصار الطلب على الوصاية سلوك الطمأنينة في وجه مجهول الحداثة الهاجم بقوة على مجتمع كان بطيئا رتيبا فأصبح التغيرات تلاحقه بأسرع ما يكون. لكن ثمة نواميس كونية. من ضمنها ما يسميه الأنثروبولوجي أرنست غلنر، في شرحه للتحول التاريخي لأوروبا من الإقطاع إلى الرأسمالية، “تشوه الشيء رهن لتجاوزه”، أي لابد أن يتشوه النموذج السائد ليندفع الناس متطلعين لنموذج مغاير. ولو أردنا شرح هذا القانون مستخدمين مسألة الوصاية، فإنه يمكن القول إن الوصاية والتحريض، كأدوات سيطرة من ناحية وأدوات نجاح شخصي من ناحية أخرى، عملتا بنجاح فحيدتا التيارات المخالفة وقضيتا على أهميتها الاجتماعية من ناحية وجلبتا النجاح الفردي لأصحابهما من ناحية أخرى. ونظرا لأنهما، أي الوصاية والتحريض، بهذه الفعالية والنجاعة، فإن أصحابهما سيكثرون من استخدامهما لتتحولا إلى أدوات محض شخصية لاستجلاب النجاح الفردي، من تبكيت للخصوم والتغلب عليهم. هنا يبدأ سوء الاستخدام الذي سيفرغ الآلية من أسباب نجاحها، بل ويكون سببا في إفراغها من المصداقية. مثال على ذلك، تحريض الشيخ محمد العريفي المصلين في خطبة جمعة ضد الكتاب والصحفيين بحجة أنهم لم يقفوا ضد “ثورة حنين” الذي يمكن عده، أي ذلك التحريض، مختلقا بشكل كامل من ناحية واستغلال لشعيرة دينية ضد فئة لا يمكن اعتبارها ولا حتى بالمقاييس المتطرفة ضد ثقافة المجتمع من ناحية أخرى. الآلية التي أثبتت نجاحها في الماضي تغري أصحابها لاستخدامها في غير مواضعها. فتحدث حالات “استغلال” الآلية، إما لمجد شخصي أو لأجندة فكرية خاصة بصاحبها لا يشاركه المجتمع بها. فإذا ترافق سوء الاستخدام هذا مع تطور يشهده المجتمع في بنائه، مثل تغير وزن الشباب داخل المجتمع وتشابكهم بقيم ثقافية عولمية، فإن هذا يسارع في صد الناس عن الآلية التي كانت موضع ترحيب وتلقٍ وفقدان تلك الآلية لفعاليتها السابقة. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن ما كان يُنجح سابقا قد يكون سببا للخسارة حاضرا، إن لم يعِ أصحاب النجاح عمق التحولات في المجتمع والضرر الذي جلبه عليهم سوء استخدامهم لآليات نجاحهم. ألاحظ في هذا الصدد، ازدياد الإقبال المجتمعي على مشايخ ترفعوا عن التحريض من سنوات طويلة، الشيخ سلمان العودة مثلا، مترافقا مع انحسار في جماهيرية مشايخ بنوا مجدهم على التحريض ضد خصومهم عند أدنى خلاف لهم مع هؤلاء الخصوم، الشيخ ناصر العمر مثلا. “بيان الشباب السعودي” مؤشر لبداية تجاوز المجتمع ككل حالة الوصاية، وهذا ترجمة واقعية لما هو عليه حال المجتمع واقعيا من تشابك مع العالم الواسع من حولنا. نحن على أعتاب مرحلة نقول فيها وبصوت مسموع: وداعا لسطوة الصوت الواحد.