أعلنت وزارة الداخلية الكويتية أخيراً إيقافها ملتقى «النهضة» الثالث، قبل أقل من 24 ساعة من انطلاق فعالياته. وتشرف على الملتقى كوكبة من دعاة التنوير والإصلاح، على رأسها الشيخ والداعية المعروف سلمان العودة ومهتمون بالارتقاء المعرفي للساعين إلى النهضة ووسائلها من فئة الشباب «الرجال والنساء»، بهدف رفع مستوى العاملين في المشاريع المتعلقة بجوانب النهضة والتحديث في مجتمعنا الخليجي. وكان شعار الملتقى هو «المجتمع المدني... الوسيلة والغاية»، وجاء إيقافه بعد تعرضه في الأيام السابقة لهجمة شعواء جاءت استباقية على أيدي أطراف عدة في مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت أشبه بحال من السعار من حيث التصعيد والتحريض الديني والسياسي والأمني تجاه القائمين على الملتقى وأهدافه، لينتقل التحريض والتصعيد بعدها إلى أرض الواقع، عبر جملة من التصريحات أدلى بها بعض النواب الكويتيين وغيرهم، ثم لتُختتم تلك الحملة، التي أشعل فتيلها وقادها وحرك صداها من العالم الافتراضي والإلكتروني إلى الواقع الملموس، أطيافٌ حركية عدة تنتمي لبعض التيارت الإسلامية، ببيان وقع عليه عدد من العلماء الشرعيين والدعاة والحركيين في السعودية لم يتجاوز عددهم 36 فرداً، وتمَّ الترويج له من بعض المواقع الإلكترونية المعروفة بالمبالغة والزور، تحت مسمى بيان علماء السعودية! وقد أطلق ذلك البيان حُكْمَه القاطع بعدم جواز حضور الملتقى والمشاركة فيه، وشنَّ هجوماً واتهاماً ومحاكمة للمشاركين فيه، ورمى ووصم بعضَ الأسماء المشارِكة، والمعروفة بطرحها المدني والوطني، بالإلحاد والعلمانية، بل وصل الأمر إلى حد وصف بعض المشاركين المتخصصين في العلوم الشرعية في جامعاتنا تجريحاً، بالمناوئين لتطبيق الشريعة، وبأصحاب الشذوذ الفكري، بطريقة غير موضوعية وبعيدة كل البعد من القواعد الشرعية في الإنصاف والعدل مع المخالِف! إن هذا الرفض والمعارضة والتخوين والتحريض تجاه هذا الملتقى والقائمين عليه ليس بالأمر المستغرَب، فبعض هؤلاء لا يزالون يظنون أن المكانة الدينية التي هم فيها، على رغم توق الشعوب العربية من حولهم للحرية ورفضها لكل أنواع الاستبداد، لاسيما جيل الشباب، لا تزال تمكِّنهم وتخوِّلهم ممارسة سلطة الوصاية الفكرية الحارسة على الناس وعلى عقولهم، وهم لا يقبلون ولا يسمحون بالتفكير إلا بالولوج من بوابة آرائهم وتصوراتهم، وكل من يدعو ويمارس التحرر من تلك السلطة والوصاية، توجَّه إليه سهام التخوين والاتهام بالعمالة، ويحرَّض ضده دينياً وسياسياً واجتماعياً، فالفكر الإقصائي الأحادي يدرك تماماً أن البيئة الطبيعية الصحية، التي تتعدد فيها الأطياف الفكرية وتتنوع فيها الآراء والطروحات الدينية والثقافية، تشكل تهديداً صارخاً بانتهاء وصايته واضمحلال وجوده وإلغاء فكرة الرأي الواحد والقول الواحد، وكل من يساهم في طرح فكر يتسم بسعة الأفق والمعاصرة فإنه يمثل خطراً على تأثيرهم وعلى أفكارهم التي تتموضع في دائرة واحدة هي محاولة عزل المجتمع عن كثير من المستجدات والمتغيرات، ولذلك يلجأ الإقصائيون الحركيون حينها لاعتلاء أقصر السبل وأسهل الطرق للنيل من المخالف لهم في الرأي والفكر في المجتمع، عبر الاتهام بالخيانة والعمالة، من أجل محاصرة الدور الذي يقوم به هؤلاء التنويريون في معالجة الكثير من قضايا الساعة، ودعوتهم للإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي، ونقدهم للخطاب الديني التقليدي الذي بات من العوائق الرئيسة في بناء مجتمعات ذات قيم حديثة ومعاصرة تقبل بالتعددية والتعايش وقبول الآخر وحرية الرأي. لذلك، فإن ردود الأفعال من أولئك الحركيين، ومهاجمتهم لهذا الملتقى عبر شبكة الإنترنت، وبيان العلماء وتحريض السلطات الأمنية في الكويت... ما هي إلا مؤشر واضح على عمق الأزمة والخوف والقلق اللامتناهي لديهم، والشعور بفقدان مكتسبات وأمجاد الماضي، ومدى إفلاس خطابهم وانحسار تأثيره، على رغم ما تمتلكه هذه التيارات الحركية التي وقفت خلف هذه الحملة من عدد كبير من الوسائل والمنابر والأدوات الإعلامية، إلا أن المجتمع بوعيه الحاضر واهتماماته بالمتغيرات من حوله، خصوصاً جيل الشباب والبنات، لم يعد متعطشاً للتزود من ثقافة تغذيه في معظم خطابها بمنطق الحلال والحرام في أضيق صوره ومفاهيمه، وحشر الحياة برحابتها وسعتها في هذا المنطق. وكنا نأمل جميعاً، مادام مبعث من أصدر هذا البيان، كما يقولون، هو النصح والشفقة، أن توجَّه سهامهم وانتقاداتهم اللاذعة لا إلى القائمين على هذا الملتقى، بل إلى ما هو أهم وأجدى لمصلحة عموم أفراد المجتمع والمساهمة في القضايا الكبرى التي يعاني منها المجتمع، كالقضاء مثلاً على ظاهرة الفساد ومحاسبة المفسدين والتأكيد على قيم العدل والمساواة والتسامح... وغيرها من المفاهيم ذات الأهمية في مجتمعاتنا، بدلاً من السعي والانشغال بعرقلة وتشويه جهود الآخرين. وكي لا نذهب بعيداً، فقبل هذا الملتقى بفترة وجيزة، كان الكل، وليس فئة معينة، يتابعون أحداث احتجاجات الطالبات في كلية بجامعة الملك خالد جنوب المملكة ومجرياتها، بسبب تفاقم الفساد الكبير فيها، ولم نشهد حينها بياناً كهذا منهم، يوجِّه الاتهامات الناقدة والمحاسبة لكل من تسبب في ذلك. ومع ذلك، وبسبب هذه الحملة ضد هذا الملتقى، فقد ازدادت شهرته وذاع صيته بين الكثيرين، بعد تعرضه لهذه الحملة، وحتى وإن استطاعوا وتمكنوا من إلغاء عقده، كما جرى الإعداد له، فإن عليهم أن يدركوا في ظل هذا الانفتاح الفكري والتقني، بأن عقلية الوصاية والرقابة الفكرية على آراء الناس واحتكار الحقيقة قد انتهت، وأنه لا يحق لأي طرف أن يَقْصُر المجتمع على توجهاته وآرائه. * كاتب سعودي