تختزن سوريا في عمقها غضباً تفجر ثورة بعد احتقانٍ دام لأكثر من أربعين سنة. غضبٌ يكاد ستحيل وصفه، لكن يكفي سرد روايات الظلم التي تحكيها تجاعيد العجائز وألسنة الشبان لتفهم المقصود. الغضب الصاعد يترجمه الثوار شراسة في عمليات ينفّذونها تحت لواء الجيش الحر. يتميز هؤلاء بعزيمة لا تلين، تظهر في شدة قبضاتهم وإصرارهم على النصر، يخبروك بأنه لا تراجع ولا استسلام، إما النصر أو الشهادة، ولا خيار ثالث بالنسبة لهؤلاء، فالتجربة مع نظامهم الظالم تؤكد، بما لا يقبل الشك، أنهم ميّتون لا محالة، واستناداً على هذه البديهة لديهم جميعاً، يؤكدون أن مجرد التوقف يعني توقيعاً على نهايتهم، مهما ازداد عدد القتلى أو الجرحى أو المشوهين والمعذبين. جرحى لا يجدون الدواء وسط صخب الثورة تُسفر ضراوة المعارك واشتداد أعمال القمع وتسارع الأحداث عن سقوط مئات الجرحى. يُعالج جزء كبير من هؤلاء في مستشفيات ميدانية تعمل ليلاً نهاراً على الأراضي السورية. كما يُنقل عشرات الجرحى من ذوي الإصابات البليغة عبر الحدود السورية اللبنانية لإخضاعهم للعلاج في مستشفيات شمال لبنان. يتوزعون على ثلاث مستشفيات في طرابلس والشمال. ينقل جزء منهم بواسطة سيارات إسعاف الصليب الأحمر. وهناك عددٌ غير قليل يتم نقله عبر المعابر غير الشرعية خوفاً من تعرض القوات السورية للمصابين إن كانوا جنوداً منشقين أو مصابين خلال التظاهرات. يتولى نقلهم عناصر من الجيش الحر بواسطة دراجات نارية. وأحياناً كثيرة يحملونهم على ظهورهم. معظم المصابين يكونون تعرضوا لإطلاق نار أثناء التظاهرات. وهناك آخرون يسقطون ضحايا الألغام التي كان زرعها أفراد جيش سوريا النظامي على الحدود. يسقط هؤلاء أثناء محاولتهم الهرب من جحيم المعارك ومغادرة الأراضي السورية خلسة. وسط هذه المعمعة، تسنى لصحيفة «الشرق» مقابلة جرحى من الجيش الحر في أحد المستشفيات في شمال لبنان. كانوا قرابة عشرة أشخاص مصابين بإصابات مختلفة. أنين الألم يرتفع من بعض الغرف. لم يُسمح لنا بدخولها احتراماً لمشاعر شاغليها. علمنا أن ذلك كان خيار المصابين. رفض هؤلاء مواجهتنا إخفاء لحال الضعف التي يعيشونها. رغم ذلك، تقترب مسترقاً النظر. تتراءى لك أكياس مصل متدلية. وبالقرب منها، أشباه بشر أو كانوا كذلك لشدة النحول الذي بدا عليهم. يتقلب أصحابها يمنة ويسرة. يتلوون من شدة الألم. يطلب إليك الطبيب التراجع، لكنك تكون قد قررت ذلك قبل أن تتلفظ شفتاه بالكلمة. تتخيّل قريباً لك بينهم. تطرد الصورة من خاطرك بسرعة. يخبرك الطبيب أنهم على هذه الحال منذ أيام. يتحدث بأسى عن النقص الموجود في بعض الأدوية الضرورية. يذكر أن النقص الحاصل يؤدي إلى تأخير إجراء بعض العمليات الجراحية. لم يبق شيء.. فلماذا نبخل بأرواحنا ترافق الطبيب إلى غرفة قريبة. تتبعه فتدخل إلى غرفة يستلقي على سريريها جريحان. يستقبلك المصابان بالسلام والترحيب. تعلم أن أحدهما مصاب برصاصة في عضوه الذكري، اخترقت قدمه ومحالبه قبل أن تخرج من جسده. كان يعض على أسنانه ليخفي الألم الذي يعيشه. يسأل الطبيب عن حقنة المورفين، فيرد الأخير بأن «اصبر قليلاً يا محمد لم يحن أوانها بعد». يبدأ المصاب الآخر الكلام محاولاً تغيير الموضوع. الشاب اسمه أحمد وهو جندي منشق عن الجيش السوري. يخبرك أنه التحق بالجيش الحر ليحمي عرضه وأهله. أحمد مصاب برصاصتين، واحدة في بطة قدمه والأخرى في مشط رجله. عظام القدم محطمة وتحتاج إلى قرابة ستة أشهر قبل أن تجبر. يخبرك بأنه لن ينتظر كل هذه المدة. سيحمل السلاح ما أن يتحسّن قليلاً. تسأله كيف السبيل في حاله الحرجة، فيرد بأنه سيتكئ على عكازه بيد وسيحمل السلاح باليد الأخرى. يفضل أحمد الموت عوضاً عن التفرج على أهله يُقتلون. يتحدث عن مجازر تحصل في سوريا. يستدل من ذلك على أن نهاية النظام باتت وشيكة. هنا يدخل محمد على الخط. يذكر أنه أصيب أثناء محاولته حماية المتظاهرين من غارات الشبيحة. ينفث دخان سيجارته بنشوة يُشعرك فيها بأنها تنسيه ألمه. يصمت قليلاً ويضيف، «لم يبق لنا شيء، فلماذا نبخل بأرواحنا». عمال بناء ينقذون الجرحى أحمد ومحمد لا يعلمان كيف وصلا إلى لبنان. يخبران أن الجيش الحر قام بنقلهم لتلقي العلاج. حالهما كحال كثيرين. تنتقل إلى غرفة أخرى. تقابل مصاباً لم يتبق من يده سوى أشلاء. ورغم ذلك، يخفي الأخير وجهه طالباً إلينا عدم إظهار وجهه في الصورة حرصاً على عائلته في سوريا. تؤكد أنك تكاد تكون أكثر حرصاً منه. الشاب يدعى عمر. أصيب بشظية قذيفة أُطلقت من دبابة سوريا من نوع شيلكا أثناء مشاركته في إحدى التظاهرات. مشهد يده الممزقة لا يمكن أن يمحى من الذاكرة. كان لونها يميل إلى الاصفرار. بعض التقيح يسيل منها. تلحظ ذلك، لأن جراحها كانت مفتوحة رغم خضوعه لأكثر من ثلاث عمليات جراحية. تغادر الغرفة فتجد شخصاً يقف إلى جانب الباب. يُخبرك الطبيب بأنه «الملاك الحارس» لبعض هؤلاء الجرحى. تستفسر منه عن السبب، فتعلم أنه تولى نقل معظم الجرحى الموجودين في هذا المشفى. تعلم أنه يدعى خالد. كان عامل بناء قبل بدء الثورة. يؤكد أنه انضم إلى مجموعة مهمتها نقل الجرحى عبر الحدود غير الشرعية. يخبرك أن عشرات الجرحى توفّوا بين يديه. يتحدث عن وسائل النقل. فيذكر أنهم أحياناً يستخدمون الدواب كالحمير. وأحياناً أخرى الدراجات النارية. كما يلجؤون أحياناً لحمل الجريح على أكتافهم. يذكر أنهم يقاومون باللحم الحي. يروي أنه في أحد المرّات مشى قرابة عشر ساعات حاملاً أحد الجرحى على ظهره، ليهرب من دوريات الجيش السوري التي كانت تملأ الحدود. تكمل جولتك في المشفى. تقابل مزيداً من المصابين. فتعلم أن الألم ليس القاسم المشترك بين هؤلاء. يتشاركون الغضب نفسه. والعزيمة نفسها والإصرار على النصر. وكذلك الرغبة الجامحة في إسقاط النظام الذي يعمل تقتيلاً وتنكيلاً بهم وبأهلهم. فرغم الجراح، لا تجد تلكؤاً لدى هؤلاء أو خوفاً. ما خلا ذلك الذي يظهرونه عند رؤيتهم عدسة كاميرا، أو عندما توجه هاتفاً محمولاً باتجاههم. كيف لا، وقد جُبل هؤلاء على الخوف والرعب من أجهزة الاستخبارات ومراكز التوقيف. طبيب الثورة « بيطري» يقول الطبيب سامر (اسم مستعار) أنه قدم من السعودية ليعمل متطوعاً في صفوف الثورة السورية. يذكر كيف ترك عائلته في المملكة من دون أن يخبر زوجته أنه سيقصد لبنان لهذه الغاية، بل أوهمها بأنه آت لزيارة صديق فحسب.في المستشفى، تجد «طبيب الثورة» في كافة الغرف، يتحمل شكوى الجميع من دون ملل، يحدثك عن كل حالة على حدة بتفاصيلها الدقيقة، فتخاله طبيباً جراحاً، لكنك لا تلبث أن تصدم عندما تعلم أنه طبيب بيطري، تظن أنه أودعك سرا لم يسبق أن باح به لأحد، لكن سرعان ما تكتشف العكس. يمازحه أحد المرضى قائلا: «انتبه لا تعطيني نفس الجرعة التي تعطيها لحصان»، يضحك الجميع فيرد مريض آخر، قائلاً «جرعة المورفين المعطاة لبقرة لن تفلح في تسكين آلامنا».اختصاص الطبيب لا يخفى على أحد، لكن العلاقة المميزة التي ينسجها مع المحيطين به تغطي ذلك، فالطبيب نفسه يشارك أحيانا في مرافقة الجريح من الحدود عندما يعلم أن حالته تستدعي ذلك، ليس هذا فحسب، المشهد الساخر يخفي خلفه مأساة، فشر البلية ما يضحك، إذ أن الحاجة هنا هي التي أوصلت إلى الاستعانة بطبيب بيطري، فمهما كانت إنسانيته وبراعته، فإن ذلك لا يبرر ترك مصابين لمصيرهم المحتوم من دون أن يرمش جفن أي من الجمعيات الإنسانية. أصغر مندس طفل في السادسة أصيب خلال المواجهات (الشرق) لم يتجاوز السادسة من عمره. شقاوة الأطفال تشتعل في عينيه. يقترب منك ببطء خجول. تلحظ أن حركته صعبة. يخبرك أحدهم أنه مصاب في قصبة رجله. تتأمله أكثر. تراه يدبّ على قدمه فيما يسحب القدم الأخرى. يعرّفك أحدهم عليه: «إنه عمران.. أصغر مندس في سوريا». يردّ الصغير صارخاً «لا .. لست مندساً.. همّ المندسين». تسأله عما أصابه. فيجيبك بأن أحد جنود بشار أطلق النار عليه. تسأل طبيبه عن حال قدمه، فيخبرك بأن الرصاصة حطّمت قصبة قدمه. هنا تقترب والدته. تطلب منا الاستماع إليها، لكنها تشترط عدم تصويرها. تخبرنا أن والده توفي في الأشهر الأولى للثورة. تشرح سبب دخوله إلى لبنان بواسطة معبر غير شرعي. فالحاجز السوري رفض دخول الطفل من دون تصريح من والده. لم تخبرهم أن والده توفي. تغادر الحاجز مقررة دخول لبنان خلسة. تتحدث عن اللحظات التي أصيب فيه عمران. تذكر أنها كانت تهم بالدخول مع وحيدها، لكن أحد الجنود انتبه لهما. طلب إليها التوقف فركضت. عندها أطلق النار عليهما فأصابت الرصاصة عمران الذي هوى على الأرض صارخاً. تؤكد أنها لم تعد تذكر ماذا حصل بعدها. فقد غابت عن الوعي أيضاً، وعندما استيقظت وجدت نفسها في لبنان. رجل جرحت يده (الشرق)
يسعفون سيدة وصلت إلى لبنان (الشرق)
الصليب الأحمر اللبناني ينقل مصابا حالته سيئة (الشرق)