مواجهة اليهود مع الإسلام قديمة قدم هذا الدين، فقد أجلبوا في وجه الرسالة وروجوا التهم وصنعوا النفاق وحزبوا الأحزاب وتحالفوا حتى مع الوثنية الجهلاء وهم أهل الكتاب، ونكثوا العهود والمواثيق التي أبرموها والتزموها، وليس أشد صلفاً ولا أعظم جرماً من السعي لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تعويق دعوته بالتأثيرات السحرية وغيرها. وبهذا حق عليهم وعد الله بالإخراج والتشريد في أصقاع الأرض \"هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم\" حتى صاروا يعرفون بشذاذ الآفاق، فهم أقليات مشتتة تحت كل نجم منهم شريد أو طريد، وشرهم مع هذا باق بالمكر والحيلة والاستحواذ، ولهذا حقت عليهم اللعنة، وختم عليهم بالبوار. \"وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب\". حينما أعلن اليهود عن قيام ما يسمى ب[إسرائيل] كسبوا تعاطف العالم من خلال الخدعة القائلة بأن العرب يريدون أن يلقوا بهم في البحر، وربطوا بذكاء بين ما يمكن أن يصنعه لهم العرب وبين ما صنعه لهم النازيون فيما يعرف ب[الهولوكست]. وانتقلوا بعدها إلى دعوى جديدة مفادها أنهم شعب ديمقراطي متحضر يريد السلام والأمن في جزيرة متوحشة من العرب المتبربرين العطاش إلى الدم. ومع فاعلية هذه الدعاوى إلا أنهم - يبدو - لم يعودوا يشعرون بكبير أهمية لها، ولذا انتخبوا حكومة الحرب وقالوا بلسان عبري ألكن \"لا\" للسلام \"لا\" للتعايش مع العرب أو الفلسطينيين. ويكفي أن تظل أمريكا حليفةً أبديةً لهم تحتويهم تارة ويحتوونها تارات. إن الحرب ذات أهمية للمجتمع الإسرائيلي ذي النسيج المفكك غير المتلاحم، وقد كان واضحاً أن لا نجاة لهم مع وجود سلام حقيقي، وهذا ينسجم مع الخبر القرآني الصادق عنهم \"كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين\". ولذا فالحرب أو التهديد بالحرب هو الشيء الوحيد الذي يبقي على المجتمع الإسرائيلي متلاحماً في مواجهة العدو المشترك. وفي أيام الشيوعية كانت إسرائيل تتطلع إلى دور مقاومة الزحف الشيوعي على الشرق الأوسط، نيابةً عن الأمريكان، وبتعبير أعم: إلى دور المدافع عن المصالح الغربية. ولهذا ظن البعض (د . عبد الوهاب المسيري مثلاً) أنه مع سقوط الشيوعية وظهور تيار العولمة ربما تتقلص أهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة للغرب. لكن يبدو أن الأمر لن يكون بالضرورة كذلك خصوصاً بعدما تعاظم الشعور الأمريكي بالخطر الإسلامي، فقد استطاعت إسرائيل أن تجعل من نفسها أداةً رئيسةً لمواجهة التهديدات الجديدة، وأهمها هذا الخطر الإسلامي والتيارات الأصولية، وما يسمى بالتطرف والإرهاب ، فحجزت لنفسها مقعداً جديداً في غاية الأهمية. وبهذا تبدو الحرب الإسرائيلية على مناطق السلطة الفلسطينية جزءاً من الحرب الأمريكية على الإرهاب، وتصفية لقواعد المقاومة الإسلامية والوطنية في فلسطين، وربما لبنان مستقبلاً. هذا الدور الذي لم تقم به السلطة كما يريدون، هم يريدون شرطياً يلاحق عناصر المقاومة ويقتل أو يأسر لا ليسجن أو يحاكم بل ليسلم المعتقلين إليهم. إنهم لن يقبلوا بأقل من دور [العملاء]، أما التنازلات مهما كبرت فهي لا تكفي، لقد سقطت جنين ومخيماتها، ودفنت إسرائيل الشهداء في مقابر جماعية؛ لإخفاء جريمتها البشعة وقامت الدبابات والطيارات والجرافات بهدم منازل المخيم بيتاً بيتاً على رؤوس من تبقى من الأهالي، ونسفت الجوامع والمساجد والمستوصفات وكل المؤسسات المدنية، وقامت قوات الاحتلال بحملة إعدامات وحشية بعدما نفدت ذخيرة المقاتلين، وظلت مئات الجثث المتفرقة في الشوارع لا يسمح بنقلها، وتشتت شمل الأسر بسبب النزوح الكامل، فالآباء يبحثون عن أبنائهم والأبناء يبحثون عن آبائهم... يا أيها اليهودْ لا تسكروا بالنصرْ إذا قتلتم خالداً فسوف يأتي عمرو وإن سحقتم وردة فسوف يبقى العطرْ .. ** يا أيها اليهود لن تفلتوا من يدنا فنحن مبثوثون في الريح .. وفي الماء .. وفي النبات ونحن معجونون بالألوان والأصوات لن تفلتوا .. لن تفلتوا .. فكل بيت فيه بندقية .. من ضفة النيل إلى الفراتْ لن تستريحوا معنا .. كل قتيل عندنا يموت آلافاً من المراتْ ** يا آل إسرائيل لا يأخذكم الغرورْ عقارب الساعة إن توقفت .. لابد أن تدورْ إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا فالريش قد يسقط من أجنحة النسورْ والعطش الطويل لا يخيفنا فالماء يبقى دائماً في باطن الصخورْ من كل باب جامع .. من خلف كل منبر مكسورْ سينهض القتلى إليكم .. حاملي أكفانهم قد أيقظتهم نفخة في الصورْ وثم عبرتان بالغتا الأهمية من عبر الحرب الضارية والمقاومة الباسلة: (الأولى): إن هذه الحرب على ضراوتها لتؤكد أن إسرائيل مشروع قلق قابل للهزيمة، وأن الهالة الإعلامية التي تحاط بها أكذوبة غير بريئة ، إن انتصارات إسرائيل السابقة لا تعكس قوتها بقدر ما تعكس ضعف العرب والمسلمين. والشبان الذين تصدوا لإسرائيل هم الجيل الذي تعرض للترويض والتهجين، وتربى على [ثقافة السلام] وظن أن أدمغتهم غسلت من مفردات الجهاد والمقاومة والتضحية والاستشهاد. والجماهير التي خرجت في كل بلاد الإسلام متضامنة مع هذا الشعب الباسل هي التي تخرجت من مدارس صيغت مناهجها على وفق أوهام التطبيع والسلام. لقد هزم الجزائريون فرنسا، وهزم الأفغان السوفييت، وهزم الفيتناميون أمريكا ومن الضرورة أن نضع في الاعتبار الخلل في توازن القوى، إلا أنه لكي تكتمل الصورة علينا أن نتذكر أننا نملك الكثير: (1) نملك الاستعداد للتضحية والموت في سبيل الله، وشهادة القرآن عن عدونا \"ولتجدنهم أحرص الناس على حياة\". إن بطولات الاستشهاديين شيء لم يكن للناس به عهد إلا في دنيا الأساطير. ومادام عشاق الشهادة في الحمى فكل الذي شاد الطواغيت باطل ويرحل قتلانا وفي الحلق غصة يريدون عمراً ثانياً كي يقاتلوا سنُهدي كما أهدوا ونشوي كما شووا فمخزوننا من هذه النار هائل إن شهداء الانتفاضة الثانية حتى الآن يزيدون على (1500) بينما الجرحى يزيدون على (36000) غالبهم دون سن العشرين. (2) ونملك الإيمان بعدالة قضيتنا، فقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا بغير حق، وحوربنا في رزقنا وأهلنا وولدنا. (3) ونملك سحب اليد من أي علاقة مع إسرائيل، وهاهي وزيرة خارجية السويد تطالب بإصرار بقطع علاقات بلادها مع إسرائيل ... بينما دول عربية لا زالت تحتفظ بهذه العلاقة. (4) ونملك تفعيل المقاطعة الاقتصادية رسمياً وشعبياً ضد إسرائيل وحلفائها، وقد خسرت الشركات الأمريكية ملايين الدولارات بسبب المقاطعة، وتعرض بعضها للإفلاس. ومن الحكمة أن لا نمنحهم طمأنينة فيما يتعلق بالنفط فإن مجرد (التلويح) سيكون له أثره الفعال، دعك من الإقدام عليه. (5) ونملك تفتير العلاقات مع أمريكا، والبحث الجاد عن بدائل أخرى في التحالف المناوئ للغرب كالصين وبعض دول الاتحاد السوفييتي. (6) ونملك المال الذي نشد به أزر الشعب الصابر، ونمكن به المقاومة من الحصول على السلاح، فضلاً عن لقمة العيش، وجرعة الدواء وقطعة الكساء والكتاب المدرسي. إن حملات التبرع التي تنظم في عدد من الدول الخليجية لهي بادرة طيبة، وسوف تكبر وتنمو كلما اطمأن الناس إلى وصول هذه الأموال لأهلها الجديرين بها. إن المال سلاح فعال في هذه المعركة، وإسرائيل تجني سنوياً مليارات الدولارات من اليهود المتعاطفين معها في العالم، فضلاً عن الدعم الحكومي الأمريكي... والتعويضات وغيرها. فلماذا يظل أثرياء المسلمين محجمين؟ والله تعالى جعل الجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس، بل مقدماً عليه \"وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم\". نعم نحن ندرك العين الأمريكية المتلصصة على التبرع، والمتسرعة إلى التهم بدعم الإرهاب ... ولهذا نقول لكل خائف: فليدعم الأعمال الخيرية، وليساهم في رفع المعاناة عن المضطرين من أبناء هذا الشعب ... وما أكثرهم! إن الشعب الفلسطيني يقاتل بالنيابة عن المسلمين جميعاً وإذا كان هذا الشعب ضحى بحياة أبنائه وبذل من روحه وقوداً لهذا الجهاد، فيجب على بقية الشعوب المسلمة أن تنصره بالمال أداءً لفرض فرضه الله علينا، ليس تبرعاً أو تطوعاً، وإذا كان قصارى ما تتمناه في لحظة اندفاعك أن تكون مع المقاتلين في الميدان فيكفي أن تدفع ديتك، وتبقى حيث أنت تجاهد في محاور أخرى. (7) ونملك التعبير عن الرفض والاحتجاج بكل الوسائل المشروعة، بالكلمة، بالخطبة، بالدرس، بالقصة، بالقصيدة، بالبرنامج... هناك من يقدرون على إقامة الأمسيات والمهرجانات التضامنية، وهناك من يستطيعون أن يوصلوا صوتهم إلى العالم عبر وسائل الإعلام أو الفضائيات أو الإنترنت. وهناك من يعملون المسيرات الاحتجاجية ... والكثير يتساءلون عن حكمها. وهي عندي من المسكوت عنه في الشريعة، والمسكوت عنه من العادات والمعاملات هو في دائرة العفو كما قرره جماعة أهل العلم، فهي إذاً من المباحات، والذين يقومون بهذا العمل لغرض صحيح دون إفساد ولا أذية ولا تجاوز لما حرمته الشريعة هم موفقون راشدون. لكن هذه المسيرات تظل وسيلة لا غاية. فإذا كانت الأنظمة في بلد ما (كهذا البلد) تمنع استخدامها بحكم عدم الاعتياد، أو لاعتبارات أمنية أو تاريخية ...فلا ضرورة إذاً للوقوف عندها وثمت وسائل أخرى تقوم مقامها. (8) نملك سلاح الوحدة وتجاوز خلافاتنا وأنانياتنا أما الخلاف الشرعي الذي لا يقبل التجاوز فنملك أن نتفق على المنهج الشرعي في التعامل معه، نملك أن نتفق على مجملات الشريعة وقواعدها وعصمها الكبار لنتحرك في الأزمات باعتبارنا أمةً واحدة، بدلاً من أن تكون سهامنا مصوبةً إلى نحورنا، وجهودنا مثل جوادِّ الغنم يطأ بعضها بعضاً! (9) ونملك الدعاء الصادق الذي يقرع أبواب السموات لا يحجزه بغي ولا ظلم في هدأت الأسحار، وخشعات السجود، ولحظات الرقة، وساعات الاستجابة، في قنوت فردي أو جماعي، في نفل أو فرض. (10) ونملك مليار ونصف المليار من المتعاطفين الذين يحتاجون إلى شحذ الهمة وتقوية العزيمة، وتهيئة المضمار، وتيسير الأسباب، ولو أن يشاركوا بالعاطفة الحية، والوعي الرشيد، والكلمة المساندة، والإعداد للمستقبل، فالمشوار طويل. (الثانية): إن المعركة مع اليهود وحلفائها ممتدةٌ زماناً ومكاناً وميداناً، ممتدة إلى الوعد الآخر (يا مسلم ... يا عبد الله ...) وهي ممتدة جغرافياً إلى كل منطقة خطر يظنون أن سيأتيهم منها تهديد يوماً من الدهر ... سوريا، إيران، العراق، اليمن، ...الخ وهي ممتدة ميداناً في محاور متداخلة من السياسة إلى الاقتصاد إلى الإعلام إلى السياحة إلى الأمن ... إن منطقة الخليج بنفطها وخيراتها وثرواتها وموقعها الاستراتيجي حجر أساس في المعادلة المطروحة إسرائيلياً وأمريكياً، والحلم اليهودي بالجمع بين رأس المال الخليجي والعقل الإسرائيلي، الذي يروجون له كخيار وحيد يكفل أمن المنطقة واستقرارها... لا يزال مطروحاً لديهم بقوة. وفي هذا الإطار يأتي القضاء على القوى الإقليمية (كالعراق وإيران ) ويبدو أن هذا خطر لا يمكن تناسيه، وربما لا يكون بعيداً والله أعلم، إن صدقت ظنوني. إن دوائر الحرب على الإرهاب - زعموا - تتسع، فسوريا في مرمى التهديد، ولبنان على حافة الحريق، وقد صرح وزير الخارجية الأمريكي بأن السعودية تدعم الإرهاب، وهو يرمي إلى دعم الفلسطينيين. هم يريدون سلاماً يفصلونه وفق مقاسهم، يسمح بتصفية من يعكر عليهم، ويمنحهم فرصة التنعم بخيرات المنطقة وثرواتها، والمشاركة في مشاريعها وخططها وصناعة عقلها وثقافتها. يعتقد العدو أن ليس لدينا أوراق جادة نستطيع أن نحركها، ولهذا فلا معنى أن نطرح نحن السلام كخيار استراتيجي وحيد. لماذا نحن متهالكون على السلام ؟ \" إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون \" المعركة طويلة وعلينا أن نعيد ترتيب أوراقنا وأن نعمل بجد وبنفس الطويل ونتلافى المعارك الخاصة، المعارك الذاتية. كل المخلصين لأمتهم ولمستقبلهم يجب أن يشاركوا في التفكير الواعي الذي نعيد به صياغة حياتنا وفق المتغيرات والمخاطر القائمة. لعلي انتهيت ولم أبدأ بعد ... فإلى حديث آخر. الشيخ / سلمان بن فهد العودة