لماذا نحشش؟ لا تستهن بهذا السؤال أو تضحك مستخفاً من صياغته، فهو سؤال عميق يكاد يرتبط بفلسفة الوجود، خصوصاً في هذا الزمان الذي صار التحشيش فيه سمة بارزة لشعوب كاملة تراهن به على بقائها ورمقها الأخير. غني عن الذكر أن أنوّه هنا أننا لا نتكلم عن التحشيش الذي يعني فقدان العقل بسبب تناول نبتة الحشيش المخدرة، ولكنا نتكلم عن التحشيش المجازي، وهو التصرفات المضحكة التي يقوم بها الأفراد على طبيعتهم أو حتى بالتكلف، مما يوافق أفعال المحششين فاقدي العقل، وتسمية هذا الأمر تحشيشاً يرجع إلى براعة تلك التصرفات في التفوق على الخيال العادي، إلى الخيال غير العادي المجنون، وهو ما يصير إليه حال المحششين الحقيقيين حين يعبثون. يحصد المحشّشون النجومية ويحبهم الناس بغض النظر عن طبيعة ما تعاطوه في سبيل الوصول إلى درجة القبول الشعبي العام، وذلك لأنهم سبب رئيس من أسباب البهجة وتحريك الركود الجاثم على النفوس، وتفكيك عضلات الوجه التي يبّسها الهمّ، ومع أن الضحك أمر محبوب بالفطرة يسعى له الناس ويشيع بينهم كالعدوى، فإنّ الاصطلاح جرى على وصف كل شخص «شديد الظرف» بالمحشش، وإن كان لا يتعاطى الحشيش ولا يعرف منظره، وكأن الضحك قد صار حكراً على فاقدي العقول أو ناقصيها، أو أن الذين يرسمون البسمة على الشفاه يحتاجون إلى استعمال أمور غير طبيعية لبلوغ هذه المرتبة. ومن رأفة الله جل جلاله بالبشرية، أن وهب بعض عباده القبول يجري منه مجرى الدم، وجعله سبحانه آلةً لإشاعة الضحكة في الذين آمنوا، فنال بين الناس المكانة والمحبة، وصار سبباً لتفريج الهموم وتنفيس الكروب، وانحلال الأزمات النفسية، وصارت صناعة الضحك تُدرُّ المال إضافةً لكل المزايا التي سبق ذكرها. وانتقل التحشيش الشعبي من كونه عفوياً إلى مرحلة الكتابة والتدقيق وانتقاء «المحشّات» بعد تمييز غثّها من سمينها و»غثيثها» من بديعها، لقد صار التحشيش كالعلم الذي تُتوارث قواعده وتُتَناقل بشكل عُرفي غير رسمي، يُراعي غرائز الإنسان ويعزف بذكاء على أوتار إضحاكه. لماذا نحشّش؟ لأنّ حياتنا مزعجة بما هو كافٍ لأن نهرب منها إلى حيث غياب الوعي المعنوي، نبتعد عن ملامسة الهموم الحقيقية إلى أمور أخرى شاطحة كل الشطح، هذا التغيير الحاد يُكسبنا دماء جديدة نعود بعدها إلى معاقرة همومنا بشكل سليم، بشكل أكثر أماناً لقلوبنا وأسلم لوظائفنا الحيوية. لماذا نحشّش؟ لأنّ عندنا من المشكلات مع بعض مسؤولينا في العمل والبيت والشارع والإدارات الحكومية ما يثوّر أشجاننا، وعند بعضهم من الكبت والطغيان ما يمنعنا من إبداء تضجّرنا، فنلجأ إلى وصف ما نعانيه على طريقة «مِزْحَلِّي جِدَّلِّي» وطريقة «عند الأمزاح تشتفي الأرواح»، عندها نغرق في الضحك ظاهراً وفي الوقت نفسه نغرق في البكاء باطناً، ونبعث بذلك إلى من حولنا رسالةً فحواها: أننا نعاني لا بصمت فحسب، بل إن شرّ البلية ما يُضحِك! لماذا نحشّش؟ لأنّ مِن حولنا مِن ذوي العقول العجيبة مَن لا يفهم الرسالة الواضحة التي تبعثها الكلمات، ربما نام وأنت في وسط الحديث عن مشكلة جوهرية تمسّ شخصه أو عمله أو تمس مصلحة الوطن أو حتى الدين، لكنّك إذا تناولت «حزمة الحشيش الحلال» وانطلقت مسهباً في التشبيهات مجدّفاً في بحور القهقهة والضلال، فهم ما تريد قوله وتقبّل مرارة الدواء الذي دسستهُ وسط العسل. التحشيش ليس دائماً ترفاً ولا تصنّعاً، بل قد يكون من ضروريات الحياة التي لا تستقيم حياة بعض الناس بدونها، وحين ترى الشخص سعيداً دائماً و(مفرفشاً) يلقي النكات يميناً ويساراً، جيئة وذهاباً، فيمكنك أن تستنتج أنه يُحشّش لينسى واقعه المرير، وأن الكآبة الداخلية تكتنفه والحزن يعتصره، وأنه يمثّل أمام من يحبهم لكي لا يشغل بالهم ولا يزيد همومهم. كيف بك إذا لم تفهم هذا المحشش المسكين؟ كيف إذا صببت عليه أطنان اللوم والعتاب، أو استهترت يوماً بأحاسيسه، أو دُست بكل قوتك على نقاط ضعفه، متحجّجاً بأنه يقبل المزاح وأنه «لا يمكن أن يغضب»، متناسياً أنه إنما يضع قناعاً من الفرحة على وجهه ليخفي خلفه جروحه وحروقه؟ أعتقد أنني أسهبت في الإجابة على السؤال لأنفي ما يتبادر إلى الذهن من سطحيته، واختصار الإجابة يكمن في سطر واحد: لماذا نحشّش؟ لأنّ «التبن» الذي نتناوله يومياً، لا يسوغ هضمه إلا بالحشيش!