أصبح الجميع على علم بإشكالية خريجي المعاهد الصحية من حملة الدبلوم، وتحدث الجميع عنها في الصحف والمنتديات والمجالس، لكن الغريب في الأمر هو ذلك الإصرار من قبل الجميع – بمن فيهم الشباب أنفسهم – على النظر للقضية من زاوية واحدة وهي زاوية كونهم خريجين عاطلين عن العمل لابد من توظيفهم! وللحق فإن معالجة الأمر هكذا أمر يضر بقضية هؤلاء الشباب، إذ تمثل مشكلتهم حالة معقدة تلقي بظلالها على ما يعانيه التعليم الطبي في الكليات والمعاهد الخاصة، وإنني أتمنى على صحيفتنا الغراء «الشرق» عمل تحقيق يفتح ملف التعليم الطبي سواء في القطاع الخاص أو في الجامعات الحكومية الناشئة؛ لثقتي أنه سيكون ملفا ثريا يفيد منه أهل الاختصاص لتلافي مشكلات على نمط مشكلتنا هذه التي نعالجها بل أشد وقعا وتأثيرا. إن خريجي المعاهد الصحية الخاصة ضحية ثلاثة عوامل تكالبت عليهم، تمثل غفلة القطاع الحكومي بمؤسساته ذات العلاقة العامل الأول ولم تفق هذه المؤسسات إلا بعد أن امتلأ الواقع بالضحايا، يليه مصالح رجال الأعمال الذين استثمروا في أهم عامل وطني وهم الشباب استثمارا منحازا للتربح على حساب المخرج التعليمي، ثم الشباب أنفسهم الذين لم يستطيعوا تقدير أنفسهم تقديرا جيدا فظنوا أن المال بديل عن ضعف مخرجهم في الثانوية مما حدا بالجامعات إلى رفضهم ليتكئوا على حالة ظاهرها العلم وباطنها العقد، وإن كان التعميم لا يليق هنا لكن الأغلب كان كذلك. لا يمكنني القسوة على الشباب حين اختاروا طريقا رأوه سهلا في خضم معمعة القبول في التعليم العالي، لقد كانوا بحاجة إلى استشارات تقودها مؤسسات تحسن قراءة الواقع والمستقبل، لكن فاقد الشئ لا يعطيه فهل تنبأت مؤسسات التخطيط لدينا بهذه المشكلة مسبقا؟؟.... لا أعتقد ذلك! إن هناك قناعة لدى كثير من القيادات الصحية تقول بالضعف الشديد في مؤهلات هؤلاء الخريجين في ثلاثية اللغة والمهارات والمعارف المتعلقة بتخصصاتهم وإن الضخ بمجموعات كبيرة في القطاع الصحي سيورث الخدمة الطبية مزيدا من الضعف والإشكالات، وإنه لمن المخجل والمؤسف هذه الملاحظة التي تربط بين السعودة وبين سوء الخدمة، هذه الملاحظة التي بات يقولها الكثيرون ويؤكدون اختبارها وصحتها. إن ذلك يدعو إلى ترشيد السعودة في القطاع الصحي ترشيدا لا يصب في التحكم العددي بل في تأهيل وإعادة تأهيل هذه الكوادر بما يضمن خدمة آمنة للمرضى ومن ثم خدمة متقدمة. إن تركهم هكذا فيه مزيد من الإهدار لهم ولتحصيلهم فعنصر الزمن والانتظار لا يخدمهم خاصة مع علمنا بطبيعة شهاداتهم التي لا مكان لها خارج المؤسسات الصحية. حسنا.. قلت أعلاه إن اختزال المشكلة في بطالة وتوظيف فقط غير صحيح.. فكيف يكون الحل؟ نظرا للتوسع في المشروعات الصحية من مستشفيات وخلافها كما هو متوقع خلال الزمن المنظور ولأن الوظائف المحدثة للفئات الفنية مستقبلا هي لدرجة البكالوريوس وليست للدبلوم إلا في حدود ضيقة جدا ولوجود عناصر غير سعودية لكنها (مؤهلة) ولأن التوظيف الفني خاضع لمعايير علمية حسب السعة السريرية، فيمكن طرح الحلول التالية: لماذا لا تقتصر برامج التجسير من درجة الدبلوم إلى درجة البكالوريوس في الجامعات الحكومية والكليات الأهلية على هذه الفئات فقط حتى الانتهاء منهم ويكون ذلك على نفقة الدولة؟ لماذا لا يخصص لهم برنامج ابتعاث خارجي للحصول على البكالوريوس؟ ماذا عن توظيفهم على بند مؤقت براتب مقطوع لمدة محددة (سنتين مثلا) يخضعون خلالها لبرامج إعادة تأهيل واختبارات ومن يجتاز تلك المرحلة يتم تثبيته بالإحلال التدريجي بدلا عن غير السعوديين من جهة أو بدلا عن الفئات الفنية الوطنية التي قاربت التقاعد وتشتري باقي خدمتها لتتيح الفرصة للجيل الجديد خاصة إذا علمنا أن هؤلاء الفنيين الكبار يعملون في وظائف إدارية من سنين ويمثلون بطالة مقنعة على كل حال! هذه الأفكار وغيرها مما يطرحه المهتمون بالشأن الصحي وما تحويه من تفكير خارج الصندوق لابد من أخذها على محمل من الجدية لتحقيق مصلحة لا تخفى في ظروف اقتصادية وتاريخية محفزة. قبل مغادرة الموضوع لابد من الإشارة إلى رفض ستة آلاف فني أو غالبهم التوجه للقطاع الخاص وهذا أمر يبدو سلبيا في ظل دولة حديثة يكون القطاع الخاص شريكا أصيلا في تنميتها البشرية، لكن التساؤل عن السبب قد يجلي الأمر لذا لابد من الاستماع لهؤلاء الرافضين، والعلة وراء ذلك ومعالجة الإشكالات المتوقعة خاصة ما يتعلق بالمقابل المادي وعدد ساعات العمل والقوانين ذات العلاقة بالأمان الوظيفي. لقد بدا واضحا وفي أكثر من اتجاه أن كثيرا من مشكلات الوطن تتعلق بفئة الشباب ليس عزوفا عن التعاطي معهم بل هو نوع من المفاجأة بوجودهم ومشكلاتهم وكأنهم قد نزلوا للتو من كوكب آخر، إنه الاستعداد الذي طالما غاب وقل ما حضر.. إن الشباب شمعة لا يصح أن تنطفئ وإن بابا موصدا في وجوههم لا بد من فتحه.. فلا تطفئوا شمعة.. ولا تغلقوا بابا.