في إحدى نوبات ضيق التنفس الحادة، أُدخل أبي إلى غرفة طوارئ، ووُضع على فمه كمامة أوكسجين، كنت وصديق له إلى جانبه. في هذه الأثناء رنّ جواله فالتقطته، وابتعدت خلف الستار كيلا أزعجه، أجبت المتصل، شرحت له بأدب ظرف أبي الطبي، وعدم قدرته على الكلام، أصر رغم ذلك على التحدث إليه بدعوى أن حاجته ملحة، عندها غلبني طيش الشباب، فوبخته على تقديم مصلحته على ظرف غيره، حتى ولو كان الظرف قاهرا. عدت إلى سرير أبي بعد انتهاء المكالمة، وجدت صديقه مبتسما، أما هو فقد بدت على فمه -الذي كان قد نُزعت عنه الكمامة- ابتسامة عتب، كابتسامة أب كسر ابنه شيئا ثمينا، أدركت أن صوتي علا حتى وصلهما، لامني أبي قائلا «صاحب الحاجة ما ينلام، الله لا يحوجنا لأحد». كلما عبرت بأحد مواقف الحياة وتجاربها، تذكرت حلمه وحكمته، وجدت خير تعبير لها مثلا عاميا بليغا هو «العازة لزّازة». و«العازة» هنا من كلمة عوز، وتعني الحاجة، أما «لزّ» فمن معانيها اضْطَرّ، وبلاغة المثل في استثماره الصرف والصوت لإيصال المعنى، فالتشديد وتكرار الحروف يفيدان تكرار الفعل، وتردد حرف الزاي الأقرب صوتيا للطنين يفيد الإزعاج الناشئ عن الفعل. الحاجة مذِلّة، ولا يقدم عزيز النفس على طلب المساعدة، إلا بعد صراع داخلي، ينتهي بانتصار حاجته على كرامته، وهو في هذا الموقف أجدر بالرحمة، ومن يرحمه سيُرحم.