في مسيرة الإنسان الحياتية يواجه المرء منا أشكالاً مختلفة من أصناف البشر، ومواقف شتى، وهذه الأمور التي نصادفها تشكّل لنا فيما بعد مخزوناً ثقافيّاً ومعرفيّاً يُكسبنا التجربة، فننبهر في بعضها، ونشيح أوجهنا عن بعضها الآخر، وفي الغالب ما ننشد له من أول وهلة سرعان ما نكتشف خواءه وربما زيفه بعد ذلك، وهناك من نشيح أوجهنا عنه لنكتشف في مستقبل الأيام أنه جوهرة ثمينة ودرة مكنونة، وهنا نسارع للقول بأن الدر في قاع البحار بينما يطفو الزبد على الشطآن. لكننا نستغرب، وربما لا نسأل أنفسنا: لماذا لم نفكر بهذه الحقيقة قبل أن نحدد علاقتنا من الأشياء، وفي أدق تعبير، قبل أن تصدمنا هذه الأشياء. هذه المواقف تعلمنا، لهذا سأحاول ذكر ما تعلمته من هذه الدنيا. علمتني الحياة أن الذي يتحدث كثيراً لا يفعل شيئاً ذا قيمة، وكلما زاد حديث المرء عن نفسه سرعان ما يتضاءل في أعين الآخرين، وكلما تحدث المرء متباهياً بالكرامة والشرف، يرددهما في مناسبة أو غير مناسبة، كلما كان أكثر الناس فقداناً لهما، حتى على مستوى الدول، فالدول التي تُقرن باسمها «الديمقراطية» مثل كوريا الشمالية وكوبا الحاليتين وألمانيا الشرقية واليمن الجنوبي السابقتين، هم أبعد ما يكونون عن الديمقراطية واحترام إنسانية البشر، فالذين يتشدقون بمثل هذه القيم الإنسانية النبيلة هم أول من يمتهنها ولا يبالي بها، وكم كان الخليفة أبو بكر الصديق محقّاً حينما قال «اهرب من الشرف – أي الرئاسة والزعامة والسيادة – يتبعك الشرف» فأغلب الأشياء التي لا يحرص عليها الناس يجدونها في متناول أياديهم، أقول «أغلب» ولا أقول «كل» لأن «التعميم» ثقافة الساذج ومبدأ الجاهل، وشعار الأحمق العجول. هذه الحياة العجيبة الغريبة، علمتني كثيراً وكثيراً، وربما لا تتسع أكثر ما أريد قوله في هذه السطور المعدودة، والكلمات المحسوبة علينا في عالم الكتابة الصحفية، لكن سنحاول ما باستطاعتنا قوله هنا «علمتني الحياة أن الرجولة موقف، يقفه الرجل حينما تتلاشى الأشباح الذين نتصور أنهم أصحاب وخلان، وعلمتني الحياة أن شجاعة العقول مقدمة على شجاعة القلوب، ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي الذي قال: إن الشجاعة في القلوب كثيرةٌ ** ووجدتُ شجعان العقول قليلا ومصيبتنا في الكلمة الأخيرة «قليلا»، لأن أصحابها كثيرون، يهتزون كما تهتز الأغصان في يوم ريحٍ عاصف، فكثير هم «شجعان القلوب» لكن «شجعان العقول قليلا»، وهذا الكلام يذكرنا بالحديث النبوي الشريف «إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» وهذا الحديث يحمل أحكاماً عامة، دينية ونفسية واجتماعية. وهذا مما علمتني به الحياة، لكن الحديث الشريف وبيت شوقي فينا بعد زادا من يقيني بسلامة ما تعلمتُه من هذه الحياة المملوءة بالتناقضات. علمتني الحياة أن الكلام من ذهب، والصمت لا قيمة له، بل لا يستحق أن يكون فضة، لأن الصمت مذموم وصاحبه ضعيف لا قيمة له في هذه الحياة، إلا في شيء واحد وهو حينما يكون الكلام قبيحاً، يكون الصمت محموداً، أما مقولة «الكلام من فضة والصمت من ذهب» فكلمة أطلقها أحمق وصدقها جاهل واطمأن لها السذج البسطاء، فالقرآن الكريم كله كلام والخالق الكريم سبحانه أثنى على نفسه بكثرة الكلام ولم يمدح ذاته المقدسة الشريفة بالصمت، وأحاديث الرسول – عليه الصلاة والسلام – وأقوال الأئمة والصالحين كلها كلام، والكتب والمجلدات الضخمة التي صنفها العلماء والمفكرون تعجّ بالكلام، ولو جاءتنا يعوي بها الصمت، لوصلتنا بيضاء ينعق البوم بين سطورها. علمتني الحياة أن الذين ماتوا قبلنا كانوا مشغولين، يركضون في هذه الحياة لبلوغ مقاصدهم، وأن لهم مواعيد مهمة يحرصون على تنفيذها، ولديهم أحلام يسعون لتحقيقها. علمتني الحياة أن المرء كلما تعلم وازداد علماً، كلما كان أحوج للمعرفة، فالعلم بحر غزير ومتلاطم الأمواج لا سواحل له وقاعه عميق. وعلمتني الحياة أن لا أغضب، وأن يكون غضبي عزيزاً عليّ كما هو رضاي، وذلك أن أمنح الآخرين فرص تبرير مواقفهم، لكن إذا غضبت بعد ذلك لن أفكر بالتراجع إلا حينما أكتشف أني أنا المتسرع في اتخاذ هذا الموقف.