تتطور الدول، وتنمو حضارات الأمم حينما تؤثر الثقافة على السياسة، ويكون المثقف الواعي صاحب الضمير، المخلص لبلاده ولأمته هو من يوجّه عمل السياسيين أو يرسم لهم الخطط، وفي أضعف الظروف يساعدهم في رسم هذه الخطط، وذلك عندما يكون المثقف يعمل لصالح شعبه وأمته، ويكون لدى السياسي استعداد لتقبل العدالة. أما حينما يختل الميزان فإن كفتيه ستتمرجحان علوًّا وهبوطًا، ويصبح الطرفان في مواجهة لكليهما. وهذا ما جعل كثيرا من مثقفي العرب في العصر الحديث يتحدثون عن أزمة الثقافة وإشكالية علاقة المثقف بالسلطة، حتى صار بعضٌ منهم يعتقد أن من الثقافة أن تكون في صراع دائم وتحدّ مستمرٍ للسلطة، مما حدا بعديد منهم أن يرفع شعار التحدي عند حدوث الانتخابات لتشكيل المجالس والحكومة بأن يكون معارضًا قبل أن تظهر النتائج وتعلن الحكومة عن خططها وبرامجها السياسية، معتقدًا أن هذا هو الطريق الأمثل في الممارسة السياسية له كمثقف. هذا الوضع المتأزم كان سمة الحياة العربية في عصور متعاقبة، لكنه لم يكن كذلك في بواكير الحضارة العربية الإسلامية، حيث كان صوت المثقف – الذي يمثله آنذاك طبقة الفقهاء والمفكرين والعلماء – كان يعلو على صوت الحاكم كما هو الحال زمن الخلفاء الراشدين الذين استلموا الحكم عن طريق الشورى، وحتى عندما تحوّل النظام الحكومي لملكية وراثية زمن الأمويين والعباسيين فيما بعد، فهناك علماء ورجال فكر استطاعوا أن يكونوا كالطود الشامخ بوجه الحكام، وذلك عندما كان أغلب الحكام لا تحركهم رغبات الأهواء، ومن يتصفح التاريخ سيعلم بأن عديدا من مثقفي ذلك الزمان كانت لهم مواقفهم الصادقة، ومنهم من دفع تبعات تلك المواقف، حينما يكون صوت الظلم أقوى من وهج الحقيقة. لكن عندما تبنى المأمون فكر المعتزلة واعتقد بمسألة خلق القرآن الكريم، أدخل الثقافة العربية والإسلامية في نفق مظلم، وذلك عندما حمل الناس عليها، فوافقه أصحاب الأهواء، وهناك من حاول التدليس عليه بالرد لينجو بنفسه من بطش الخليفة الذي أعماه الجهل، وأغواه غرور السلطة. هذا الموقف الذي فتح بابه المأمون جرّ على المسلمين الشرور، ولعل من أشدها خطورة أن أصبحت الثقافة بمنزلة العربة وصارت السلطة كالحصان الذي يجرّ هذه العربة، بعدما كان الاثنان كفرسي رهان، يسيران جنبًا إلى جنب، وكان كل طرف منهما يشدّ من أزر صاحبه، ويقيل عليه عثراته، حينما يكبو أحدهما بالطريق. لقد كانت الثقافة بالإسلام في تطوّر عظيم، فقد خرج قبل فتنة خلق القرآن علماء جهابذة في الدين كأبي حنيفة والإمام مالك بن أنس والإمام الشافعي، وكان آخر هؤلاء الكبار الإمام أحمد بن حنبل الذي صار رابعهم، كان هؤلاء روافد حضارية خدمت الفقه في الإسلام الذي كان يمثل بجلاء حقيقة الثقافة في الإسلام، إذ كان الفقه الإسلامي يتطور ويتفاعل مع معطيات الحياة العربية والإسلامية، قسّم الأبواب، ونظّم الفصول، ووضع المصنّفات، وأخرج التلاميذ والطلاب الذين نشروا هذا الفقه في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها، واستطاع هضم الواقع المعيش للسكان تحت مظلة نصوص الكتاب والسنة، لكن هذه الحالة الصحية التي استمرت تتجذر في الوعي العربي أخمدها المأمون الذي تبنى فكر الاعتزال، وأراد فرضه على كل المسلمين بقوة السيف، مما ولد له معارضة عنيفة تبناها الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض فكرة خلق القرآن، وامتنع عن التسليم بها. وهكذا ظل الفكر الديني ممثلاً في الفقه كونه القوة الحركية للدين الإسلامي يرزح تحت هيمنة السياسة، وهو القادر على حفظ التوازن بين الدين والحياة، غير أن هذه الفتنة العظيمة التي أحدثها المأمون متخبّطًا في متاهات من حوله ويتموج مع رغباته وما يمليه عليه المحيطون من أتباعه جرّت على هذا الفكر الويلات، لاسيّما أن سار على هذا المعتقد من جاء بعده كالمعتصم وابنه الواثق بن المعتصم، وحينما آلت الخلافة للمتوكل أوقف القول بخلق القرآن، إلا أن مراحل هؤلاء الخلفاء الذين صاروا يتحكمون في مجريات الثقافة، التي كان الفقه من أبرز أوجهها الفكرية والحضارية فرضوا بقصد أو دون قصد سياسة التفكير النمطي على الأمة، بما فيهم الخليفة العباسي المتوكل الذي أفسد من حيث أراد الإصلاح، إذ أغفل باب الاجتهاد. وهكذا كان لتدخل السياسة بالثقافة لا من أجل الدعم والتطوير، بل جاء هذا التدخل كأسلوب جذب إلى الوراء، وتثبيت الفكر الديني عند النقطة التي ارتضاها السياسيون لها.