الهناء والاستقرار في أوربا خصوصا في مهد الديمقراطية «بريطانيا» يفرض سؤالا صعبا ليست إجابته دائما سهلة.. هل هذا المجتمع الذي أتقن فن التعايش ويعيش حياة ذات جودة عالية في أكثر مناحيها هو نتاج الديمقراطية سياسياً والرأسمالية اقتصادياً؟. حينما ترى وسائل النقل العام المتطورة والمتنوعة في المدن الأوربية وما بينها تؤمن أن الإنسان حين يستهدف شيئا يحصل عليه، والأوربيون استهدفوا رفاهية إنسانهم بكافة طبقاته الاجتماعية والاقتصادية، فحصدوا الرضا والاطمئنان في كثير من شؤونهم، فتجد الخوف أقل، والوضوح أكبر، والصدق والأمانة عادة عفوية وليست شعارا تنصح به الكتب. في الأسبوع الماضي، وجدت نفسي قد تأخرت للحاق برحلتي في مطار هيثرو، قررت حينها أن أوقف أقرب سيارة أجرة تأخذني في أسرع وقت للمطار، وبعد تحية الصباح قلت له قبل أن أركب كم تتوقع أن تُكلف الرحلة فقال: بين الستين والسبعين جنيها، فعرفت أني سأنفق كل ما تبقى من نقود في هذا المشوار، فهززت رأسي موافقا، وبعد أن انطلقنا سألت إن كان بالإمكان الوصول قبل منتصف النهار؟ فهز رأسه بالنفي، مؤكدا أن الطريق طويل ومتعرج، واحتمالية ازدحامه كبيرة في هذا الوقت من الأسبوع لكن حين رأى رغبتي الملحة في الوصول السريع لوجهتي، نصحني بما لا تتوقع أن يفعله إلا القليلون من أنظاره في مشرقنا العربي، قال إن ثمة محطة قطار قريبة لديها رحلات مباشرة وسريعة للمطار، وتأخذ ربع هذا المبلغ الذي قد تدفعه لي، فانظر ماذا ترى؟.. وبعد أن شكرته على النصيحة وأوصلني لمحطة القطار واصفاً كيف أفيد منها أعطى مؤشر الحساب لديه مبلغ عشرة جنيهات، فأعطيته خمسة عشر ليخبرني أنها فقط عشرة، فقلت وخمسة للنصيحة، وهي لا تكفي شكرك. الرأسمالية وحدها بشعة، فهي سباق محموم لتنمية المال، لكنها بمؤسسات المجتمع المدني تضطر لتقليم أظافرها الطويلة لتلمس جسد المجتمع الرخو بلمسات ناعمة لا تنخر فيها بسمومها؛ لذا تجد مثل هذه المجتمعات التي ترتفع جودة منتجاتها وترتفع أسعارها. ثمة طرق أخرى يتم ابتكارها لتحمي بسطاء الناس وتعطيهم في ذات الوقت الجودة المطلوبة، كما أن الديمقراطية وحدها ليست غاية، فهي قد تقود لمجتمع يرسخ مساوئ كبيرة لكنها حتى الآن كما يقول تشرشل هي أفضل الحلول السيئة.