يعول المجتمع على أن للنخبة دوراً في تكوين سوسيولوجيا الأفكار والآراء وتبادلها بالإضافة إلى تصدير الرأي العام للمجتمعات الأخرى، ناهيك أنه لا يستطيع أي باحث دراسة مجتمع ما دون الرجوع إلى ملامح الحركة التاريخية للنخب سواء كانت سياسية أو ثقافية، فهي تشكل ملمحا جوهريا في معرفة مفهوم الواقع الاجتماعي لأي زمان ومكان وتحت أي ظرف، خصوصا في الأزمات السياسية والنكبات والحروب. ولكن من هم النخبة اليوم؟ وما هو دورهم؟ جاء في لسان العرب لابن منظور، أن كلمة نخبة مصدرها الفعل انتخب وانتخب الشيء، أي اختاره، والنخبة ما اختاره منه، ونخبة القوم، ونخبتهم خيارهم، ويقال: نخبة القوم (بضم النون وفتح الخاء) وإذا قيل جاء في نخب أصحابه، أي خيارهم، وقد أشار معجم المصطلحات السياسية والدولية، إلى أن (Elite) يقابلها بالعربية الصفوة، أي: عُلية القوم، وهم أقلية ذات نفوذ تحكم الأغلبيةً، وتلعب هذه الصفوة دورا قياديا، وسياسيا لإدارة جماعاتهم من خلال الاعتراف التلقائي بهم بصفتهم. كما يرى كثير من الباحثين أن استخدام كلمة النُّخبة Elite حديث نسبيا في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وبالرجوع لها تاريخيا فإنها استخدمت لأول مرة في القرن السابع عشر- كما يورد بوتمور في كتابه الصفوة والمجتمع. ومن ثم استخدمت في عام 1823 لوصف النُّخب الاجتماعية وأوضاع الحياة الطبقية في أوروبا بصورة عامة، ومن ثم شاع استخدامها بين صفوف المفكرين والباحثين في نهاية القرن التاسع عشر ليعبر عن الفئات الاجتماعية الأكثر تميزا في المجتمع تلك التي تحتل مكانا مميزا في الهرم الاجتماعي لاسيما في المجالات السياسية والعسكرية والثقافية. إضافة إلى ذلك، فإن استخدام هذه الكلمة ارتبط كثيرا بالسلطة الدينية من رجال دين وكهنة، وشكل هذا تفويض المجتمع ووضع قراراته في يدها آنذاك، مما جعل هذه النخب تتجه إلى فرض هيمنتها وأفكارها والتعاون مع الأنظمة القمعية الحاكمة باسم الدين وذلك من أجل خدمة المصالح السياسية البحتة، فتم تقديس الحاكم على أنه الرب الأكبر كما حدث في عصر الفراعنة وحكام العصور الوسطى الأوروبية، وهذا ما يعكس العلاقة الطردية بين الدين والسياسة في أي مجتمع. يعد المفكر الفرنسي سان سيمون من أبرز من وضع الخطوط الأولى لمفهوم النخبة، إذ إنه يرى أنه من الضروري وجود هذه الفئة في المجتمع التي يقع على عاتقها دور كبير في تغيير وتطوير مسار المجتمعات نحو الأفضلية، وبلا شك أنه لا تسند هذه المهام إلا إلى العلماء والفنانين والمخترعين من حملة المؤهلات العلمية والفكرية، وأصحاب العقول النيرة، وهذا ما يؤكد تصدر العلم على الانتماءات العرقية أو الطائفية والطبقية، وفي مقالة نشرها عام 1819 يقول فيها «إن فرنسا لن تعاني من فقدان ملوكها ونبلائها وكل أنواع سياسييها، ولكنها ستصاب بكارثة عمياء إذا ما فقدت علماءها وصناعييها وأفضل حرفييها، فالنُّخب كما يراها تشكل روح الأمة وقوتها الخفية. يقول سيمون في وصفه لحالة فقدان النخب «لنفترض أن فرنسا فقدت بصورة مفاجئة أهم خمسين من الكيميائيين والأطباء والعلماء والشعراء والرسامين والمهندسين والجراحين والصيادلة، الذين يعدون مع غيرهم من الحرفيين والمهنيين الأكثر إنتاجا، فإن الأمة ستصبح جسدا لا روح فيه، وستحتاج فرنسا إلي جيل كامل لتعويض هذه الخسارة الهائلة». عالج علماء الاجتماع مفهوم النخبة في ثلاثة اتجاهات، أولها الاتجاه السيكولوجي حيث يرى فلفريدو باريتو أن المجتمع ينقسم إلى قسمين هما: النُّخبة التي تحكم، والمحكومون الذين يخضعون لهيمنة النُّخبة هذه التي تشكل الأقلية المتميزة والمتفوقة في المجتمع في مختلف تشكيلاته الاجتماعية، أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه التنظيمي كما يعتمده غيتانو موسكا أنه القدرة على التنظيم في داخل النُّخبة ومرونة التفاعل بين أفرادها مما يجعل النُّخبة قادرة على امتلاك زمام الأمور والسيطرة على مختلف جوانب الحياة في المجتمع. أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه الاجتماعي الاقتصادي الذي يركز فيه ميلز على مفهوم «نخبة القوة» التي تعني الطبقة التي تستحوذ على معظم ثروات المجتمع أي بصورة خاصة كبار التجار وأصحاب الأملاك والعقارات، إذ إن هذه النخب بفضل هيمنتها الاقتصادية تستطيع أن تتحرك من مركز قوة إلى آخر. يعتبر هذا الحديث موضع دراسة وبحث مستمر، لاسيما في ظل انتشار المعلومة، حيث إنني أؤمن أن المثقف وهو جزء من النخبة، هو ذاك الشخص الذي يمتلك الأسلوب والسلوك الراقي في تقبل الآخرين خصوصا من يختلف معهم، لأنه بطبيعة الحال هو نتيجة هذا المجتمع الذي تكون منه ونشأ بين يديه وخرج باسمه، ولكن يبقى سؤالي لماذا يجتاح كثيرا أنفة الغرور من مجتمعه بمجرد حصوله على لقب تخصصي، أليس هو جزءا منه؟!