فيما تؤكد القيم الأخلاقية نظرتها السلبية تجاه الأنانية باعتبارها صفة مذمومة، لا أحد يرغب في أن يصفه الآخرون بها. وكونها نزعة فردية يساعدها تراكم السلوك المرتبط بها في أن تتحول إلى ممارسة تتسلط على الوعي الذاتي خصوصاً في حالة عدم التعود على مراجعة العادات والممارسات السلوكية الذاتية لدى الشخص الذي قيدته هذه النزعة السالبة. إنّ كون الأنانية تتشبث بالأخذ دون العطاء، يرسّخ صورتها المذمومة في المشهد الأخذي، ويوسع إدراك المتأمل الموضوعي لجوهرها ومظاهرها المتعددة التي قد تشاهد وتتكرر في كل مكان أو زمان، وترتبط بكل عمل لا يوجد فيه أحد معاني العطاء أو أسبابه. أن نأخذ دون أن نعطي مع قدرتنا على العطاء ولو بالحدّ الأقل، يضعنا في أحد تصنيفات الشخصيات الأنانية. أما حينما نأخذ وفي المقابل نعطي، فالحال متعادل عندها، ولعل هذا أحد وجوه تبادل المنفعة. لكنّ القيمة الأعلى تتحقق مع أولئك الذين يعطون ولا يأخذون، ومهما كان حجم العطاء أو نوعه أو مداه، فهو مؤثر ومنتج، وكلما كان منحناه البياني متصاعداً، فإنّ التأثير يكون كبيراً؛ مما يضع مثل هذه العطاءات تأخذ مكانة النموذج والمثال الذي يجدر المحاكاة والاقتداء والتأسي به. فأن نتمثّل هذه النماذج التي تصنع ثقافة الإيثار الموجبة مقابل ثقافة الأنانية السالبة، وثقافة البناء الصاعد مقابل ثقافة الهدم المضمحلّ، هو مشروع نشر الحياة والخير والبركات. العمل التطوعيّ يعادل موضوعياً الوجه الزاهي للعطاء، بل هو حقيقة يتجلى العطاء في كل أنفاسها. وإلى أن يغدو التطوّع نظرية إنسانية، ثم يتحول إلى قانون أخلاقيّ تمارسه الفطرة المجتمعية، نحتاج إلى خطط وجهود تعمر كل أنحائنا بثقافة العمل التطوعيّ، وتنبت شجرةً طيبةً في كل بيت وفي كل زقاق وفي كل مدرسة وخلال كل أفق لتكون هذه الشجرة مفردة يترنّمها كلّ مقدّمي العمل التطوعي؛ لتكون حقلاً نضراً إلى جوار نهرٍ عذب تنساب جزيئات المسؤولية الذاتية والاجتماعية في عروقه، وتتحقق مقولة: المجتمع كالبنيان، يشدّ بعضُه بعضاً. واللافت في مجتمعاتنا أن الآباء والأجداد والأمهات والجدّات كانوا وفق معطيات المرحلة التي عاشوها يبتكرون صيغاً كلها تصنّف حديثاً بأنها أعمال تطوعية. وتكرر المفردة الشعبية «فَزْعَة» بين ذلك الرعيل هو أمر محسوم، فيما تشير الكلمة ذاتها إلى أي نوع من المشاركة أو القيام بعمل فيه دفع لكربة أو إسداء لمنفعة لمن يحتاجها من أبناء مجتمعهم، ويتضح أن الكلمة نفسها ترتبط بجذر لغوي يشير في أحد معانيه إلى تقديم العون والمساندة، وهذا من المألوف حينها، حتى ليقال إن فلاناً مَفْزَعُ القوم. إذاً لا نبالغ إن قطعنا بالقول: إن كون ثقافة العمل التطوعيّ متجذّرة في شعبياتنا وتراثنا، وتستحق التجدد عبر إتقان صياغة معالم المبادرات التطوعية، وآلية إدارتها وتنفيذها في مجتمعاتنا الحديثة بالمعطيات المتوفرة حالياً. وفي العقد الأخيرين تنامى مفهوم العمل التطوعي في مجتمعاتنا، وأخذت البلدان تعقد المؤتمرات وورش العمل والتدريب وحلقات النقاش حول معالم المفهوم الحديث للعمل التطوعي، وكيفية تيسيره، وتحقيق أهدافه، ودور الشباب في تنفيذ وإدارة مشاريعه، التي تحتاج إلى تنوع في الأدوات وتوظيفها في المسيرة التطوعية التي تعمل بلا أجر، يقودها التمسك بالقيم الإسلامية والأخلاقية والمجتمعية. وزاد من وتيرة الدافعية الشبابية نحو إطلاق المبادرات التطوعية المتنوعة وتنفيذها، ذلك الاحتكاك التطوعي والتجارب التطوعية التي انخرط فيها بعض شبابنا بنين وبنات خلال مشاريع التطوع التي عاشوها في جامعاتهم التي تم ابتعاثهم إليها. والشواهد الإيجابية كثيرة في كل مناطق المملكة، وهذا يمثل إضافة حيوية في المحتوى التطوعيّ الذي يمكن توجيهه إلى هذه المشاريع التي تعطي دون أن تأخذ، وتساند دون أن تسأم، بوصلتها رضا الله وهمها الإنسان والأرض وما ينشر السرّاء، أو يخفف الضرّاء. بدأت مؤسساتنا التعليمية في تكريم المتميزين في العمل التطوعيّ، وربّما صار التوجه لإشراك الموظفين في أكثر من قطاع لينضمّوا إلى مقدمي الخدمات التطوعية في هذا الفضاء الواسع الذي تتكاثر بحمد الله فيه المبادرات التطوعية، فهنا مشروع الفئات التي تتبرع بالدمّ لبنوك الدم التابعة لوزارة الصحة، ومبادرات تجميل المدن وأخرى في بناء بيت، وغيرها في خدمة حاج، إلى المبادرات البيئية والإنسانية التي تحتاج إلى توثيق ونشر وتشجيع، وتخصيص منح دراسة للمتميزين في العمل التطوعي هو أحد عوامل التحفيز للمشاركة في الأعمال التطوعية، وهذا هو الطريق ليكون التطوّع ثقافة وحياة. وورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».