أودع الخالق سبحانه في الإنسان غريزتي الإيحاء والتقليد، وهما صنوان متلازمان، فالإيحاء تقليد عقليّ، والتقليد إيحاء حركيّ، ولا غنى عن التربية بالإيحاء والتقليد في مراحل الطفولة المبكرة، فبهما ينقل الكبار خبراتهم إلى الطفل فيتكون الأساس الذي تنبني عليه قدرته في التعامل مع المواقف المختلفة مستقبلاً، لكن عندما يستمر الكبار في تبني هذا النهج التربوي إلى ما بعد تلك المرحلة بحجة أنّ الكبار أعرف بمصلحة الصغار، فإنّهم يكونون كمن يضع الصخر في طريق تدفق الشلال الذي تعتمد عليه الحقول المجاورة في تناسل سنابلها، فيحرمون أبناءهم من التفاعل المباشر مع مستجدات الحياة ومتطلبات التطور، وينسجون قيوداً حول عقولهم تمنعها من التحليق في فضاء خيالاتها التي تولّد لديهم فكراً متجدداً، وتحدّ من قدرتهم على الابتكار، وتُصيّرهم ظلاً للآخرين لا يحيد عما يريدونه قيد أنملة، ويصبحون إمّعة لا يملكون زمام أمورهم، وتُشلّ عقولهم، وتتصدع إرادتهم وينتج عن ذلك مجتمع القطيع الذي لا حول له ولا قوة، ويفقد صفة الأنيّة التي تعني الهويّة، ويتشكل بحسب اتجاه الرياح، وبدلاً من أن يتشرب خصائص جديدة من مشارب الحياة المختلفة فتتبلور عن ذلك شخصية متطورة متأثرة ومؤثرة، فإنّ فقدانه لهويته يجعله سهل الذوبان في ثقافات وأيديولوجيات غريبة عن تكوينه، وتتلاشى شخصيته، ويصبح هدفاً لدعوات نتنة تجرده من إيمانه بنفسه فيتحول إلى أداة طيّعة في يدِ أعدائه وخصومه. إذا كنا نتطلع بجدّية إلى بناء مجتمع حديث له خصائص تميّزه عن غيره، ويزخر بالقادة والمفكرين الذين يدبرون شؤونه ويحمون إرثه الحضاري، ويكملون به طريقاً سبقهم إليه بناة أمجادهم الأوائل، فإن المسؤولية الكبرى يجب أن يضطلع بها كل مربٍّ، فيغير سلوكه في تربيته للناشئة من التعصب للتربية بالتقليد والإيحاء إلى التربية بالفكر المتمرد، وهو ما سأتناوله في حديثي القادم بمشيئة الله.