تكوَّنتْ الهويَّةُ العربيَّةُ بتأثيراتٍ اعتباريَّة حرَّكتها الأنا المتضخِّمة لدى شريحةٍ واسعةٍ من المجتمعات العربيَّة سعياً لمكانةٍ اجتماعيَّة خاصَّة فيها وعلى غيرها؛ فقد نشأ العَرَبُ منذُ جاهليَّتهم يردِّدون أشعارَهم العاكسةَ ثقافتهم والمكوِّنةَ هويَّاتهم القبليَّة وعصبيَّاتهم؛ وما زال العَرَبُ المعاصرون يحفظون تلك الأشعار فيتغنَّون بها متمثِّلين بأفكارها وتوجُّهاتها ومعانيها، ويتكرَّرُ منها باستشهاداتهم الآتي: وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْواً وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَا وَمَنْ لَمْ يُصَانِعْ في أُمُورٍ كَثِيرةٍ يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوْطَأْ بِمَنْسِمِ وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غُزَيَّةَ إِنْ غَوتْ غَوَيتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غُزَيَّةُ أَرْشُدِ؟ وَنَحْنُ أُنَاسٌ لا تَوَسُّطَ بَيْنَنَا لَنَا الصَّدْرُ دُون العَالَمِيْنَ أو القَبْرُ لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيْعُ مِن الأَذَى حَتَّى يُرَاقُ عَلَى جَوَانِبِه الدَّمُ وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ فالشعرُ إذاً مرآةٌ تعكس نظرةَ العربيِّ لهويَّته ولرؤيته بأنَّ القوَّةَ وسيلتُه لتأكيدها ولحفظها من أن يخدشَها الآخر، ومن هذا السياق الثقافيِّ والاجتماعيِّ ظهرت هويَّةٌ قبليَّةٌ عصبيَّةٌ نقلها العربُ لأجيالهم عبر أشعارهم منذ عصورهم الجاهليَّة، بل ولأشعارهم المعاصرة، فهل التُّراثُ الشِّعريُّ للعرب كوَّنَ هويَّتهم القبليَّة وعصبيَّاتهم؟!! أم أنَّها تتولَّدُ من جيناتهم فتناقلتها أجيالُهم وراثةً لينطلقَ صداها شعراً تسبقه وتعقبه ممارساتهم الفعليَّةُ الظاهرةُ والمستترة، وبذلك يمكن القولُ عنهم: إنَّهم لم يهذِّبْهم ثقافةً ووعياً وديناً قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، سورة الحجرات آية رقم 13، فالإسلامُ حذَّرهم من مزالقَ اجتماعيَّة مبيِّناً أنَّ الاختلافات بين النَّاس مدعاةٌ للتَّعارف فالتَّكامل وليست للتَّفاخر والطبقيَّة والخلافات فالتَّناحر فيها وعليها. إلَّا أنَّ العربَ مع ذلك قد أضافوا لهويَّتهم القبليَّة هويَّةً مذهبيَّة متَّخِذَةً دينَ الإسلامِ منطلقاً للتصنيف الفئويِّ وللتراتب الاجتماعيِّ فانقسموا لسنَّة وشيعة، بل وقسَّموا كلّاً من هذين المذهبين لجماعات داخليَّة ومذاهب ثانويَّة، فالمتشددون من السنة منقسمون لإخوان مسلمين ولدواعش وللقاعدة وأخيراً لجفنش (جبهة فتح الشام) ولغيرهم، وكلٌّ منهم يرى أنَّه على منهج السَّلف الصالح وأنَّهم هم أهل السنَّة وهم الفرقة الناجية، والمتشددون من الشِّيعة انقسموا كذلك لجماعات داخليَّة ومجموعات ثانويَّة، وكلٌّ منها يقول: إنَّهم شيعة آل البيت وإنَّهم هم السَّلفُ الصالح؛ ومن ذلك انبثقت الطائفيَّةُ فيهم، وظهرتْ الشعوبيَّةُ لدى غيرهم ضدَّهم، ليتحوَّل بذلك تنوُّعهم لاختلافاتهم في هويَّتهم القبليَّة والمذهبيَّة التي كان يفترض أن تثريهم فكراً ينتج مساراتٍ ورؤى متوازيةً تنتهي بغاية واحدة لا متقاطعة ولا متشعِّبة؛ فتنوُّعهم أفرز اختلافاتهم التي أوصلتهم لخلافات ومخالفات فغدتْ مصادر للصراعات والتناحر وللعنف على مرِّ تاريخِهم وحتَّى زمنهم المعاصر حيثُ يكتبُ سفرَ أسوأ مسيرةٍ تاريخيَّة لهم تتابعت خطواتُها فتشكَّلت ملامحُها الأخيرة في العراق والشام بصورةٍ أوضح منها في أوطانهم الأخرى. وبذلك غدتْ الهويَّةُ القبليَّةُ للعرب والمذهبيَّةُ لهم ولغيرهم ممَّن استقرَّوا ببلادهم وسَاكَنُوْهُمْ فيها أدواتٍ للسُّلطة والثروة كمتلازمتين تعكسان تراتباً قبليّاً ومذهبيّاً حَالَا دون بلورة الهويَّة الوطنيَّة لديهم بظهور دولهم القُطْريَّة المعاصرة التي ذُوِّبتْ بهويَّة الأُمَّة وحوربتْ من داخلها وخارجها باعتبار أنَّ الوطنيَّة بوصفها من قبل محاربيها ومذوِّبيها بالقوميَّة توجُّهاً لهدم الإسلام، وأنَّها تصادم مبادئه وتعاليمه ولا تتماهى معها، متناسين قوله عليه الصلاةُ والسلامُ: «فمن أحبَّ العربَ فبحبي أحبَّهم، ومن أبغض العربَ فببغضي أبغضهم»، وغير آبهين بدروس التاريخ وعبره، ولا مستفيدين ممَّا مرَّت به شعوبٌ أخرى من صراعات وحروب بين مكوِّناتها وفيما بينها إلى أن نضجت هويَّاتها الوطنيَّة فتقاربتْ فيما بينها وتعاونت لتكوِّن كُتَلاً وتحالفاتٍ في سبيل نهضتها وفي مجال تكوينها لحضارة إنسانيَّة مشتركة بينها تنعم بها تلك الشعوبُ كلُّها. وأتذكَّر حين دراستنا في التعليم العام في الجغرافيا الإقليميَّة للدول بأنها تُنْهَى دراسةُ كلِّ دولة بالعلاقات بينها وبين بلادنا، فترد عن بعضها علاقاتُ الدم واللُّغة والتَّاريخ والدِّين والجوار والمصير المشترك، مُفْتَرِضَةً أنَّ علاقات الدم تجمع القبائل ولا تفرِّقها فكلُّها تنتسب لجدٍّ أعلى، وأنَّ اللُّغة تقرِّب بين المتحدِّثين بها مهما تنوَّعت أعراقهم فتسِّهل الاندماجَ بالمصالح وبالمشاعر فيما بينهم، وبأنَّ الدَّين يجمع بينهم ولا يفرِّقهم مستلهمين ذلك من قوله تعالى في الآية السابقة رقم 13 من سورة الحجرات، وأنَّ الجوار يعني احتماليَّة الاشتراك في العلاقات الأخرى من دم ولغة ودين وتاريخ، ويحفز للاشتراك بالمصالح الآتي على رأسها الأمنُ والاستقرارُ والتعايشُ والتكامل بالتبادل التجاريِّ والثقافيِّ والاجتماعيِّ، وكلُّ ذلك سينتج تاريخاً مشتركاً فمسيرةً حضاريَّة واحدة ومساعيَ ونتائج متوحِّدة، وسيصهر التنوُّعات في بوتقة واحدة تؤطِّرها الوطنيَّة والمصير المشترك فتختفي الخلافات داخل إِطارها. إلا أنَّه وفي العقدين الأخيرين ظهرتْ جهاتُ التَّواصل الاجتماعيِّ ووسائلُه كما تسمَّى أملاً بذلك، لكنَّها انتكست لتغذِيَ القبليَّة والمذهبيَّة والطائفيَّة والشُّعوبيَّة، ومن ثمَّ تحسنُ تسميتُها بجهات التنافر الاجتماعيِّ ووسائله انطلاقاً ممَّا تبثُّه وتنشره من اختلافات فتحويلها لخلافاتٍ قبليَّة ومذهبيَّة وطائفيَّة وشعوبيَّة متعارضةً مع قوله تعالى في الآية السابقة رقم 13 من سورة الحجرات، وبذلك شُوِّهَتْ حريَّةُ التفكير والتعبير في هذه الجهات والوسائل وفي تعليقات معلِّقين في مواقع الصحف، وجاء تشويهها على حساب الديمقراطيَّة منهجاً ومساراً يؤكِّدان حقوقَ الإنسان من مساواة وعدالة اجتماعيَّة، وتضمن لهم الحقَّ في الانتخابات ونزاهتها شاملةً مواطني الوطن الواحد جميعاً بغضِّ النَّظر عن تصنيفاتهم العرقيَّة والجنسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وتضمن أيضاً المساواة بينهم جميعاً في حقِّ التعبير عن الآراء بما لا يتعارض مع المصالح العليا للوطن وثوابته وسيادته.