مدينة حلب المكلومة هذه الأيام تئن وتنتحب بسبب القصف الوحشي المتواصل من قبل النظام السوري والقوات الروسية، وهذا القصف الذي لا يفرق بين طفل أو مسن أو امرأة أو عاجز أهلك الحرث والنسل، فقد غرزت أحداث حلب الأليمة في صدر هيئة الأمم عشرات الغرز من العار والخزي التي لن ينساها لها التاريخ وذلك بوقوفها متفرجة على الأحداث دون تحرك سياسي أو دبلوماسي يسجله لها التاريخ؛ فأصبحت حلب في مهب الريح ما بين مجلس الأمن الذي يتقاسمه القوى الست العظمى القديمة وباتفاقات في ما بينهم يتم استخدام الفيتو لنقض أي قرار يكون لصالح حلب وأهلها، والجميع يعلم أن أهل حلب دفعوا الثمن الكبير في ثورتهم ضد النظام فكانت مدينتهم الأكثر تعرضاً للقصف المدمر العنيف؛ حيث أبيد معظم معالمها وآثارها وقتل مئات الآف من سكانها غير الذين شردوا في السنوات الماضية بسبب القصف المستمر على المدينة. حلب هي أكبر مدينة في سوريا وتقع في شمال غرب سوريا وتعدُّ من أقدم مدن العالم، ومن آثارها المهمة قلعة حلب المشهورة التي يعود بناؤها إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، بدأ بروزها في العهد الإسلامي وتحديداً في العهد العباسي عندما اتخذها الحمدانيون عاصمة لحكمهم الذي امتد إلى الموصل والجزيرة، وكان الشاعر أبو فراس الحمداني من أشهر شعراء حلب والدولة الحمدانية. كانت حلب نقطة ارتكاز مهمة في العصر الوسيط أثناء الحروب الصليبية في بلاد الشام، فكانت حلب من المدن المهمة التي حرص الأمراء الصليبيون على احتلالها بسبب موقعها ومواردها الاقتصادية، إلا أنهم عجزوا عن ذلك بسبب بسالة وشجاعة أهلها، أما في العهد الزنكي وتحديداً بعد وفاة السلطان الصالح بن نور الدين زنكي سنة 579ه عمد صلاح الدين الأيوبي إلى ضمها لحكمه وإنهاء الدولة الزنكية، وبهذا أصبح صلاح الدين يحيط بالصليبيين من كل جانب وخاصة بعد ضم الموصل أيضاً مما ساعده في انتصاره عليهم في معركة حطين الشهيرة سنة 583ه التي لن ينساها الغرب ما بقي، وقد تجلت روح التسامح والخلق الرفيع في شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي عندما عفا عن ملك بيت المقدس والأمراء الصليبيين الذين تم أسرهم ما عدا حاكم الكرك الصليبي «أرناط» الذي قتله بيده برّاً بقسمه. تلقت حلب أقوى الهجمات في تاريخها سنة 656ه عندما حاصرها المغول بقيادة زعيمهم «هلاكو» واجتاحوا المدينة بمساعدة من حاكم أنطاكية الصليبي «بوهيمند السادس»، وتفيد المصادر التاريخية أن المغول قتلوا ما يقارب مائة ألف من السكان وأسروا كثيراً من أهلها وكان ذلك في نهاية الدولة الأيوبية وبداية عهد دولة المماليك، وبعدها بسنة تمكن المماليك من إرجاع حلب بعد انتصارهم على المغول في موقعة «عين جالوت» الشهيرة سنة 658ه، وبعدها عادت حلب إلى حظيرة الدولة الإسلامية، وبدأت كما كانت وأقوى في جوانب الثقافة والتجارة والصناعة، وبعد اتفاق «سايس بيكو» الشهير بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى فقدت حلب أهم المدن التابعة لها مثل أنطاكية وما جاورها، إلا أن حلب تصدرت التجارة والصناعة والمكانة التاريخية في عهد سوريا الحديث، وكانت من أهم المدن تأثيراً في الحركة التجارية والاقتصادية والزراعية، إلا أنه مع الأسف نشاهد ما يحدث فيها الآن من قتل وتخريب ودمار وإبادة شاملة على يد النظام والقوات الروسية، ولعل بعضنا يسأل لماذا هذا الحصار القوي والقصف العنيف المدمر على حلب؟ نحن جميعنا ضد الدكتاتورية والطغاة أينما كانوا، وأخطر الطغاة من يتاجرون بمصير أمتهم، وهذا ما يفعله بشار الأسد بوطنه، إنه يتاجر بمصير وطنه ويريد أن يستمر في الحكم على أنقاض الجثث والدمار، ولم يفكر في تقديم أي تنازلات من أجل وطنه وشعبه، فاحترقت أغلب سوريا وفقدت مئات الآف من أبنائها، وبما أن مدينة حلب مدينة استراتيجية ولها تأثيرها القوي في المشهد السياسي السوري، فإن بشار يريد معاقبة أهلها أشد العقاب من خلال قتلهم وتدميرهم، لأنهم الجزء المؤثر والكبير في هذا المشهد، لذلك يريد تغيير ديموغرافية سوريا في حين ظل باقياً في الحكم وتفقد حلب الشهباء هيبتها وتأثيرها. ختاماً، ما حدث ويحدث الآن في حلب هو وصمة في على جبين القوى العظمى وهيئة الأممالمتحدة التي لم تستطع إلجام روسيا والنظام بوقف هذه المجزرة البشعة، حيث لم يحركهم صور جثث الأطفال وصيحات واستغاثة المسنين والمسنات والأطفال وتشريد مئات الآلاف من السكان إلى البلدان المجاورة، وذلك بالتدخل السريع سواء عسكريّاً أو بالحل الدبلوماسي لإيقاف هذه الحرب المدمرة، فلا نامت أعين الجبناء.