العدل قيمة إنسانية أساسية، تنبثق من عقيدة الإسلام، ومن المقومات الرئيسة للحياة الفردية والاجتماعية والأسرية والسياسية، وهو ميزان الله في الأرض، بل إن إقامته بين الناس هو هدف الرسالات السماوية كلها. وإذا علمنا أن الدولة السعودية تأسست على أسس الشريعة الإسلامية الغراء؛ فإننا لا نستغرب عناية الملك عبدالعزيز بتكريس العدل طوال حياته، وهو من يتحدث بطموح عال في زمن مليء بالتحديات: «قدوتنا – إن شاء الله- عمر بن الخطاب في الخلفاء الراشدين، ذلك الإمام الذي حمل الدقيق على ظهره لإحدى أرامل المسلمين، وفي الأمويين عمر بن عبدالعزيز الذي ضرب بعدله وزهده المثل». ويبوح بأمنيته: «لقد أقمت في هذه البلاد حكماً عادلاً، مستنداً إلى سنة الله، وحكمة الشريعة السمحة، وغاية مناي أن أجعل من هذه المملكة العربية السعودية بلداً سعيداً، يتمتع بالحرية والرخاء». ثم يوضح منهجه العدلي: «أما المظلمة التي تصلني فإني لا أتركها، بل أبحثها وأحقق فيها، وتلك التي لا تصلني فالذنب فيها على من رأى وكتم، وإذا علمت به فسيكون جزاؤه عندي أعظم من جزاء غيره». واستمر طوال حياته يكرس لهذا المبدأ العظيم، ويعزو صاحب كتاب: «أخلاق الملك عبدالعزيز» أسباب ذلك إلى أمور، أولها: التزامه الحقيقي بأحكام وآداب الشريعة الإسلامية، وحرصه على التمسك بأخلاق ومبادئ أسرته التي عرفت بالرياسة والملك منذ أزمان طويلة، واكتسابه كثيراً من التجارب والعبر في مسيرة حياته. وبعد دخوله الحجاز، أصدر مرسوماً ملكيّاً نشر في جريدة أم القرى في عام 1344ه، نصه: «إن صاحب الجلالة الملك يعلن للناس كافة أن من كان له ظلامة على كائن من كان موظفاً أو غيره كبيراً أو صغيراً ثم يخفي ظلامته فإنما إثمه على نفسه، وإن من كان له شكاية – فقد وُضِع على باب دار الحكومة صندوق للشكايات مفتاحه لدى جلالة الملك- فليضع صاحب الشكاية شكايته في ذلك الصندوق، وليثق الجميع أنه لا يمكن أن يلحق المشتكي أي أذى بسبب شكايته المحقة من أي موظف كان، وينبغي أن يراعي في الشكايات ما يأتي: ينبغي تجنب الكذب في الشكاية ومن ادعى دعوى كاذبة جوزي بكذبه، ولا تقبل الشكاية المغفلة من الإمضاء، ومن فعل ذلك عوقب على عمله، وليعلم الناس كافة أن باب العدل مفتوح للجميع على السواء، والناس كلهم كبيرهم وصغيرهم أمامه واحد، يبلغ الحق مستقره، والسلام». وقبيل وفاته، وتحديداً في عام 1372ه، أصدر الملك منشوراً أمر بتعليقه على أبواب المساجد مفاده أن من لديه شكاية أو ظلامة فليرفع بذلك إليه مباشرة ببرقية مجانية، ووجه الجهات المختصة بتنفيذ ذلك. وثمة إعلان شوهد معلقاً على أبواب المسجد النبوي، نصه: «من عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن سعود إلى شعب الجزيرة العربية، على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه أن يتقدم إلينا بالشكوى، وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا، وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من رعيتنا، ولو كانت موجهة ضد أولادي وأحفادي أو أهل بيتي، وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه مهما تكن قيمتها، أو حاول التأثير عليه ليخفف من لهجتها، أننا سنوقع عليه العقاب الشديد… لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يحمِّلني الله وزر ظلم أحد، أو عدم نجدة مظلوم أو استخلاص حق مهضوم.. ألا قد بلغت؛ اللهم فاشهد». ولأجل تأكيد تحقيق العدالة عيّن في الرياض قاضيين، قاضياً للبدو وقاضياً للحضر، وذلك لما يستلزم من سرعة البت في قضايا البدو الذين يأتون من خارج المدينة للبيع والشراء. وقد ذكر المؤرخون والمهتمون بسيرة الملك عبدالعزيز وقائع كثيرة كأمثلة عن تطبيقات الملك عبدالعزيز المتعلقة ببسط العدل في أرجاء البلاد، ولكل الناس دون تفرقة، وكان الملك عبدالعزيز أوكل النظر في نظام المحاكم وترتيبها إلى مجالس الشورى، لترتيبها بصورة تضمن توزيع العدل وتطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً لا يترك مجالاً للأهواء. وفي أوان تأسيس المملكة بذل الملك عبدالعزيز جهداً كبيراً في إيجاد نظام قضائي موحد، تنضوي تحته سائر المحاكم في جميع أنحاء البلاد، وكانت الخطوة الأولى صدور أمره بتاريخ 4 / 2 /1346ه، في 24 مادة، باسم «تشكيلات المحاكم الشرعية»، وتم بموجبه تنظيم المحاكم وتصنيفها على ثلاث درجات، وهي: المحاكم المستعجلة، والمحاكم الكبرى، وهيئة المراقبة القضائية، «محكمة التمييز». وتطور القضاء في عهده، لتتميز بالالتزام التام بالأحكام الشرعية، واستقلال جهاز القضاء عن السلطة التنفيذية والإدارية، إضافة إلى تعدد القضاة للنظر في القضية الواحدة متى ما لزم، ومجانية القضاء، كل هذه الميزات ضمنت طمأنينة الفرد على نفسه وماله وعرضه، وأن الناس سواسية في الحق والعدالة. ولم يكتف بإرساء العدل في حياته، بل أوصى من بعده وولي عهده سعود، في برقية أرسلها إليه: «عليك أن تجدَّ وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم، بالنصح سرّاً وعلانية، والعدل في المحب والمبغض، وتحكيم هذه الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها ظاهراً وباطناً، وينبغي أن لا تأخذك في الله لومة لائم… عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة وفي أمر أسرتك خاصة، اجعل كبيرهم والداً، ومتوسطهم أخاً وصغيرهم ولداً، وهِن نفسك لرضاهم، وامحُ زلتهم، وأقِل عثرتهم، وانصح لهم، واقضِ لوازمهم بقدر الإمكان، فإذا فهمت وصيتي هذه ولازمت الصدق والإخلاص في العمل فأبشِر بالخير». رحم الله الملك عبدالعزيز، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً.