حينما يقوِّم الدارسون علميّاً مكتسباتِ وطني التنمويَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة سيجدونها ما زالتْ تعكسُ خطواتٍ تمهيديَّة ليس إلَّا، وتسجِّل محاولاتٍ تشريعيَّة وتخطيطيَّة لا أكثر، وتتمثَّل في رغباتٍ وأمانٍ وطموحاتٍ لا غير، فتكاد تُفْتَقَدُ المنجزاتُ التي تقوم عليها منجزاتٌ تالية، ولا يَلْحَظُ أولئك الدارسون بأنَّ مشكلاتنا وقضايانا التنمويَّة تختفي بقدر ما تتَّسع وتتشعَّب، وأنَّ ما يحقِّقه وطني تنمويّاً ما هو إلَّا من قبيل الموصوفِ بالآنيِّ وبالمؤقَّت، وعند محاولة الدراسات العلميَّة الخروج من ذلك بتفسيرات للواقع أو باستفساراتٍ تؤسِّس للمستقبل تواجهها تبريراتٌ وتعليلاتٌ يتقاذفها المسؤولون والمواطنون فيما بينهم ليحمِّلَ كلُّ طرفٍ الطرفَ الآخر الأسباب والنتائج، فيقع الدارس والمراقب في حيرةٍ مع مَنْ سيتوافق في تبريراته، وسيتفهَّم تعليلاته، إلاَّ أنَّ الدارس والمراقب المتناوِلَين الواقع بحياديَّة سيجدان أنَّ معظمَ المواطنين معوِّقون لمعظم المسؤولين، كما سيجدان أنَّ معظم المسؤولين معوِّقون لأهداف الوطن ولخططه ولتطلُّعاته وطموحاته، وكأحد المراقبين لتنمية الوطن سأحاول إثبات التمهيد صدر هذه الفقرة إثباتاً موضوعيّاً مدعوماً بالأمثلة وبالنماذج الآتية: * ترك المثقَّفون والأدباء الحراكَ الثقافيَّ والأدبيَّ جانباً منشغلين بصراعاتهم مع مجالس الأندية الأدبيَّة وانتخاباتها ولوائحها، وانشغل أعضاءُ المجالس الأدبيَّة بدفاعاتهم ليس إلاَّ، كما انشغلتْ المجالسُ البلديَّة وراء مُشْغِلِيْها عن مهامها وأدوارها، ومثلها فروع جمعيَّة الثقافة والفنون ووكالة وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافيَّة المنشغلتان بما انشغلت به الأنديةُ الأدبيَّة، فإلامَ يقتصر الحراكُ الثقافيُّ والأدبيُّ والفنِّيُّ والبلديُّ على تلك المماحكات والجدالات وتمرُّ السنين دون منجزاتٍ وطنيَّة تتوافق مع ما يقدِّمه الوطن من اعتماداتٍ ماليَّة وما يهفو إليه من تطلُّعات حضاريَّة، وما يرسمه من خطط تطويريَّة؟!!. * انشغلوا بتصريحاتِ وزراء وزارة الإسكان وبخططها وتشريعاتها وإجراءاتها هجوماً ودفاعاتٍ دون أن تتحقَّقَ منجزاتٌ تحلُّ أزمةَ الإسكان، فتُطَوَّر الأراضي البيضاء والمخطَّطاتُ السكنيَّة وتعالج مشكلاتها، هذا بالرغم من اعتمادات بمئات مليارات الريالات، بل وتتفاقم أزمةُ الإسكان وتتوسَّع والمواطنون والمسؤولون في سجالات صحفيَّة مقروءة ومرئيَّة، وتمضي عقود السنوات دون أن تتحقَّقَ الحلولُ، فيما دولٌ أقلُّ إمكاناتٍ من بلادنا حلَّتْ مشكلاتها الإسكانيَّة وتجاوزتها. * عُطِّلتْ السينما والمسرح كأوعيةٍ وأدوات تثقيفيَّة فانشغل روَّادها عن تحقيق منجزاتهم فيها داخل الوطن بمواجهات معطِّليها عن مساراتها العالميَّة، وانشغلتْ وزارةُ الثقافة والإعلام باحترازاتها عن تطلُّعاتها، وتمضي السنين وما يحقِّقه السينمائيُّون والمسرحيُّون في قاعات ومسارح خارج الوطن لا تحفِّز الوطن على احتضانهم وطنيّاً بقدر ما تعطي قدراً واسعاً من المجاملات للمعطِّلين لنشاطاتهم في قاعات الوطن ومسارحه. * تُسْتَنْزَفُ مياهُنا الجوفيَّة، ونلمسُ ذلك ونتبيَّن مؤشِّراته، ونظلُّ نلهثُ وراء تشريعاتٍ سرابيَّة دون الوصول لإجراءات تخفِّف من ذلك أو تحول دون حافة الانهيار المائيِّ والتصحُّر الظاهريِّ والجفاف الباطنيِّ، وكأنَّما تكذَّبُ تلك المؤشِّرات لمصالح معوِّقي التشريعات المائيَّة، وتقلِّبُ وزارة المياه تقاريرَها المائيَّة دون اتِّخاذها قراراتٍ وطنيَّة في الحفاظ على المتبقِّي من مياهنا الجوفيَّة التي ستكون يوماً ما أغلى من النفط في البقاءِ على الحياة، فما زال المنتفعون الأنانيُّون يستنزفون مياهنا الجوفيَّة ويصدِّرونها معبَّأةً وضمن مكوِّنات منتجاتهم إلى خارج الوطن، وتمضي السنين ونحن نلوك تخوُّفاتنا ومياهنا الجوفيَّة تُسْتَنْزَفُ باستخداماتٍ زراعيَّة وصناعيَّة دعائيَّة لا مبالية، وباستخداماتٍ منزليَّة لا واعية، ومثلها تهدر الطاقة الكهربائيَّة والنفطيَّة فإلى متى والوطن لا يتحكَّم بمقدَّراته في ضوء نزوات الأنانيِّين وجهلِهم بمآلاتها سواء أكانوا من المواطنين الأنانيِّين المنتفعين أم كانوا من المسؤولين المغلوبين على مسؤوليَّاتهم أو اللامبالين بها؟!!. * يقع معظمُ مراهقينا وشبابنا بل وبعض كهولنا تحتَ التأثيرات السلبيَّة لجهات التَّواصل الاجتماعيِّ منشغلين فيها لساعات طويلة، ومتأثرين بما تنشره من أفكارٍ سلبيَّة، يتسلَّل من خلالها الفكرُ الداعشيُّ والمتشدِّد إلى أذهانهم، فيقع كثيرون منهم في مصائد مشايخ التطرُّف وفي شراك داعش والإخوان المسلمين والقاعدة، وينادي الغيورون من المواطنين بمراقبة ذلك أو بحجب تلك المواقع حمايةً للوطن وللمواطنين من الانزلاق نحو الهاوية مجنَّدين فكراً أو فعلاً بدفعهم لساحات الصراعات العسكريَّة أو لضرب أمن الوطن واستقراره، وإزاء ذلك يتصدَّى بحسن نيَّة وبسوئها من يدخلون في جدالات عقيمة مع المواطنين الغيورين في ذلك في ضوء حريَّة التعبير، وتمضي السنين والوطن يعاني من التطرُّف ومن التنظيمات المستهدفة أمنه واستقراره، فإلامَ يظلُّ الوطن في هذه الحلقة المفرغة دون الخروج منها لحلولٍ عمليَّة تقنيَّة وتشريعيَّة وإجرائيَّة؟!!. * يعاني تعليمنا العام والجامعيُّ من مساراته التقليديَّة تلقيناً وتسميعا، ومن مناهجه الدراسيَّة النظريَّة قولبةً وتجهيلاً، فيما حقَّقتْ دولٌ تركتنا بمصاف العالم الثالث إلى صفوف العالم المتقدِّم تغيير أنظمة التعليم فيها وتطوير مناهجه الدراسيَّة ناشرةً استراتيجيَّات التفكير فيها وجاعلةً الفلسفة والمنطق معايير لسلامة تفكير المتعلِّم، فيما تعليمنا ظلَّ بين تجاذبات مدَّعيا سلامة مساراتنا التقليديَّة أنظمةً ومناهج وطرائق تدريس، وبين المنادين بتطويره المتَّهمون من الآخر التقليديِّ بمحاولاتهم التغريبيَّة، وتمضي السنين والعقود دون أن يحقِّقَ تعليمُنا ما حقَّقته دولٌ كانت تسير مساراتنا فتقدَّمتْ بتعليمها وفي تنمية مجتمعاتها صناعيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، فإلى متى ونحن في تجاذباتنا الفكريَّة والحواريَّة في جدالاتٍ واتِّهامات لا أكثر. * وهكذا أوضاعنا في الصحَّة وفي المرور وفي الاستقدام وفي البطالة المقنَّعة والظاهرة وفي عمل المرأة وتأنيث محلاَّت احتياجاتها وخدماتها، وفي النزاهة والفساد الإداريِّ والماليِّ، وفي حقوق المرأة وحقوق الطفل، فلْيُوَاجِهْ الوطن مشكلاته وقضاياه التنمويَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة مواجهاتٍ تشريعيَّة إجرائيَّة دون الالتفات إلى من تحرِّكهم أيديولوجيَّاتٌ فكريَّة أو مصالحُ شخصيَّة أو اعتباراتٌ أنانيَّة.