كان اجتماعاً لطيفاً بين عدد من الأصدقاء القدامى الذين فرقتهم ظروف العمل ومشاغل الحياة وإن أبقت على جذوة الود والمحبة كامنة في القلوب، دار الحديث المرح عن الذكريات والأبناء والوظائف والمستقبل، ثم أبدى أحدهم ملاحظة على وزن أحد الأصدقاء الذي انخفض بشكل ملحوظ، أثنى عليه الجميع وسألوه عن سر هذا التغير، هل أجرى عملية جراحية؟ هل يتناول وجبات الحمية من مركز غذائي خاص بالحمية؟ فاجأهم الصديق حديث العهد بالرشاقة بأنه لم يتبع أياً من تلك الطرق، وأنه بمجرد أن اكتشف أنه بدأ يصاب بمضاعفات السمنة قرر أن يقوم بإنقاص وزنه بمجهود ذاتي يعتمد على إرادته وحدها وهاتفه المحمول. دهش الجميع وسألوه كيف يعتمد على هاتفه المحمول في إنقاص وزنه؟ فأجاب بأنه بالإضافة لاستخدامه كمتصفح للإنترنت لمتابعة المواقع الطبية العالمية التي يبني عليها برنامجه الغذائي فإنه يساعده في ممارسة الرياضة ويخبره بعدد الخطوات التي يمشيها يومياً والمسافات التي قطعها والسعرات الحرارية التي يحرقها. تحمس أحد الحضور وسأله عن التطبيق الذي يستخدمه لفعل كل ذلك وهل هو مجاني أم مدفوع الثمن، فاجأه الصديق الرشيق عندما أخبره أنه تطبيق أساسي موجود في كل الأجهزة الذكية من ذات الشركة وأنه لا يحتاج إلى إعدادات أو خطوات لتفعيله، وأنه يبدأ بقياس نشاطك الحركي منذ اليوم الأول لشرائك الهاتف دون أن ينتظر أي إذن منك. أصابت الدهشة صاحب السؤال وبادره بقوله هل تعني أن جهازي الذي في يدي الآن يفعل الشيء نفسه؟ بالتأكيد، أجابه وهو يأخذ منه الجهاز ويفتح التطبيق الخاص بالصحة على شاشته وفي ثوان قليلة كان يعيد له الجهاز، دهش الرجل واتسعت عيناه وهو يكتشف أن جهازه الذي يمتلكه منذ عامين يحتوي تسجيلاً دقيقاً لخطواته والمسافات التي قطعها لكل يوم من أيام السنة بل وبالتفاصيل لكل يوم على حدة فيخبره بأنه مشى في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني مسافة 100 خطوة ثم 70 خطوة بعدها بساعتين ثم 330 خطوة بعدها بنصف ساعة، وهكذا بدقة متناهية وجد الرجل نفسه يغوص مندهشاً ومذعوراً في ذات الوقت في دفتر الذكريات الدقيق هذا، في اليوم الفلاني كان عدد الخطوات التي مشاها كبيراً جداً، يراجع التاريخ ليجد أنه يوافق يوم أدائه العمرة في شهر رمضان، في أيام متتالية كانت خطواته قليلة جداً، فتذكر أنه كان مريضاً في تلك الفترة وطريح الفراش، يا إلهي!. يا له من شيء مرعب، مرعب أن تكتشف أن هناك من يسجل لك كل خطوة تقوم بها، كل نشاط مضى وانطوى ونسيته تماماً، ثم تعود لتفاجأ به في سجل كامل أمامك. اعترته رجفة خفية وهو يتذكر مشهد يوم القيامة والعرض أمام الله، وهو يتذكر قوله تعالى «اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا» ترى أي رعب سيعتريه وقتها في ذلك الموقف المهيب وهو يقرأ ذلك الكتاب كما يقرأ شاشة الجوال الآن؟ كم مرة انساق وراء هواه وشهوته؟ كم مرة تساهل في الغيبة والنميمة؟ كم مرة تطاول في جدل ومراء وخصومة؟ كم وكم وكم؟ كل ذلك مضى وانقضى في ستر عن العيون وطواه النسيان. لكنه مدون ومثبت وحاضر بقوة أمام الملأ في ذلك اليوم. لا عذر وقتها يقدمه ولا مجال ليضيف لكتابه صفحات أو ليحذف شيئاً منها يغير مصيره. وُضعت السفرة وبدأ الأصدقاء في تناول طعام العشاء وصاحبنا شارد الذهن يخطط لأمرين، أن يبدأ في ممارسة الرياضة لتحسين سجله الصحي، وأن يبدأ في مراقبة سلوكه لتحسين سجله الأهم في اليوم الأعظم.