فورَ صدور تقرير تشيلكوت عن حرب العراق؛ ظهر رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ليدافع عن نفسه، معتبراً أنه لم يكن بالإمكان تأخير العملية العسكرية. لكنه صرَّح بقبوله ما خلُصَت إليه لجنة التحقيق من انتقاداتٍ لطريقة اتخاذه القرارات. ولدى إصدارها تقريرها صباح أمس الأربعاء؛ وجَّهت لجنة التحقيق البريطانية، برئاسة السير جون تشيلكوت، انتقاداً شديداً لبلير. ونسبت إليه التخطيط غير المناسب والمبالغة والاستناد إلى أسس قانونية غير مُرضِية ومشورة معيبة، وذلك قبل مشاركته في غزو 2003 بقيادة الولاياتالمتحدة ومشاركة عدة دول. ونسبت إليه أيضاً أنه تعهد للرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش، بالوقوف معه بخصوص العراق «مهما حدث». ولم يذهب تقرير تشيلكوت، الذي طال انتظاره، إلى حد وصف التحرك العسكري ب «غير قانوني»، وهو موقف سيصيب كثيرين من منتقدي بلير بخيبة أمل، إذ لن يرضيهم مجرد وصف المعلومات والمشورة التي استند إليها التحرك ب «المعيبة». وأعلن رئيس اللجنة، في كلمةٍ عرَض فيها نتائج التحقيق، أن «الظروف التي تقرَّر خلالها أن هناك أساساً قانونيّاً للتحرك العسكري لم تكن مُرضيةً على الإطلاق». ولاحظ التقرير «لم يكن هناك تهديد وشيك من صدام في مارس 2003» و»كان يجب توقُّع الفوضى التي عمَّت العراق والمنطقة فيما بعد ذلك». وأسفر الغزو وما تلاه من عدم استقرار عن سقوط 150 ألف قتيلٍ عراقي على الأقل بحلول عام 2009 معظمهم من المدنيين، فيما تشرَّد أكثر من مليون شخص. وانضمت لندن إلى الحملة دون استنفاد الخيارات السلمية، كما قلَّلت من شأن العواقب ولم يكن تخطيطها ملائماً على الإطلاق، كما ورد على لسان تشيلكوت. وأفاد أقارب بعض الجنود البريطانيين الذين قُتِلوا في العراق بأنهم سيدرسون التقرير لمعرفة ما إذا كانت هناك إمكانية لإقامة دعوى قانونية ضد المسؤولين. وأُعلِنَت النتيجة بعد 7 أعوام من التحقيقات التي بدأت مع انسحاب آخر قوات قتالية بريطانية من الأراضي العراقية. ويتألف التقرير من 2.6 مليون كلمة، ويتضمن تفاصيل عن الاتصالات التي جرت بين بلير وجورج بوش الابن، بشأن الغزو عام 2003. وأعلن تشيلكوت «أصبح من الواضح الآن أن السياسة بشأن العراق وُضِعَت على أساس معلومات مخابراتية وتقييمات مغلوطة»، مبدياً رفضه لوجهة نظر بلير القائل بأن المشكلات التي حدثت بعد الغزو لم يكن من الممكن توقُّعها مُقدَّماً. والغرض من التحقيق هو استخلاص لندن الدروس من الغزو والاحتلال اللذين أوديا بحياة 179 جنديّاً بريطانيّاً. وأوجز تشيلكوت الخطوط العريضة للأخطاء التي حدثت في إطار الإعداد للحرب وعواقبها. وذكر قائلاً «قبل أيامٍ من الغزو طلب أكبر محامٍ في الحكومة من بلير أن يؤكد أن العراق ارتكب تجاوزاتٍ لقرار مجلس الأمن الدولي مما سيبرر الحرب». واعتبر بلير أن هذه التجاوزات ارتُكِبَت بالفعل. لكن السير تشيلكوت وصف ب «غير الواضح» الأساسَ المحدَّد «الذي اتخذ بموجبه السيد بلير هذا القرار». وينسب التقرير إلى بلير أنه غيَّر حُجَّة الحرب من «التركيز على المخزونات الهائلة من الأسلحة غير المشروعة» إلى «نية صدام حسين الحصول على هذه الأسلحة وانتهاكه قرارات الأممالمتحدة». وأكد تشيلكوت «لم يكن هذا هو التبرير للعمل العسكري الذي قدَّمه رئيس الوزراء الأسبق قبل الصراع». وبخصوص ما كتبه بلير إلى بوش الابن قبل 8 أشهر من الغزو؛ كشفت نتائج التحقيق عن محتوى مذكِّرة تحمل تاريخ ال 28 من يوليو 2002 وكانت مُصنَّفة في خانة «سري/ خاص». وجاء في المذكرة أن بلير أبلغ بوش أنه سيدعمه «أيّاً كان الأمر» رغم تحفظاتٍ عديدةٍ لدى الأول بشأن عمليةٍ عسكريةٍ محتملة. وكانت الجملة الأولى من الرسالة «سأكون معك أيّاً كان الأمر». في الوقت نفسه؛ ينسِب التحقيق إلى مساعدٍ لبلير القول إنه حاول مع مستشارٍ آخر إقناع رئيس الوزراء بالتراجع عن هذا الوعد لكنه تجاهل توصياتهما. وتكتسب المذكرة أهميةً في ظل الاتهامات المستمرة لبلير بأنه كان «وفيَّاً» لواشنطن وأدخَل بخضوعه هذا بلادَه في صراعٍ كارثي. لكنه نفى ذلك أمام لجنة التحقيق وأبلغها «لم أكن لأعرض ولم أعرض تفويضاً مفتوحاً بشان كيفية تحقيقنا لأهدافنا المشتركة». وفي رسالته إلى بوش؛ تطرَّق بلير إلى بواعث قلقه. ورأى أن الإطاحة بصدام حسين قد تكون أكثر صعوبةً من التدخلات العسكرية السابقة منذ حرب الخليج عام 1991، وكتبَ «هذا هو الوقت المناسب لتقييم الصعوبات بشكل صريح، التخطيط لهذا والاستراتيجية الخاصة به كان الأمر الأصعب حتى الآن، هذه ليست كوسوفو، هذه ليست أفغانستان، هذه ليست حتى حرب الخليج، الشق العسكري من هذا الأمر محفوف بالمخاطر». ومضت الرسالة تقول «الولاياتالمتحدة بدعم بريطانيا قد تطيح بصدام حسين بمفردها»، لكنها تساءلت إن كانت هناك ضرورةٌ لتحالفٍ أكبر. وجاء في نصِّها «الخطرُ – كما هو الحال دائماً مع هذه الأمور- هو التداعيات غير المقصودة، لنفترض أن الأمر أصبح معقداً من الناحية العسكرية، لنفترض أن العراق تكبَّد خسائر مدنية غير متوقعة، لنفترض أن الشارع العربي انتفض». كما ورد فيها «إذا ربحنا بسرعة فسيكون الكل صديقاً لنا، إذا لم يحدث ذلك، فسيكون هناك تبادل سريع للاتهامات». وأثبتت هذه التحفظات صحتها فقد هوت الحرب ببلدٍ عربي إلى هاوية صراعٍ طائفي، كما انتشرت فيه التنظيمات المتطرفة. وفي الرسالة نفسها؛ لاحظ بلير بقلقٍ أنه «لا الألمان ولا الفرنسيين وربما لا الإيطاليين أو الإسبان سيدعمون أي ائتلاف عسكري للإطاحة بصدام حسين دون تفويض صريح ومحدد من الأممالمتحدة»، مضيفاً «في هذه اللحظة أفضل حليف لنا ربما يكون روسيا». واعتبر تقرير تشيلكوت أن الرسالة «أبرزت وجهات نظر السيد بلير الخاصة» وأن اقتراحاته «لم يجر مناقشتها أو الاتفاق عليها مع زملائه». وكشف السير ديفيد مانينج، وهو دبلوماسي بريطاني سابق، أنه حاول إقناع رئيس الوزراء بإسقاط الجملة الأولى التي يتعهد فيها بالولاء «أيّاً كان الأمر» لأنها بدت لمانينج وكأنها «تغلق كل الخيارات» و «هو ما لم يكن هذا موقفاً متعقلاً». وأخبر مانينج المحققين بأن جوناثان باول، وهو مساعد آخر، اتفق على ضرورة التخلي عن الوعد «لكن رئيس الوزراء قرر الإبقاء عليه». ونشر التحقيق مذكراتٍ أخرى لبلير إلى بوش وثَّقت إدراكه التحديات الجسيمة التي تواجههما فيما كانا يحاولان إرساء الاستقرار في العراق وإعادة إعماره بعد الغزو. وخلال أسبوع من شنِّ الحرب بدءاً من 20 مارس 2003؛ كتب بلير لحليفه في البيت الأبيض «هذه هي اللحظة التي يمكن أن تحدد خلالها الأولويات الدولية للجيل المقبل، النظام الحقيقي لحقبة ما بعد الحرب الباردة» و»الهدف الأساسي هو نشر قيمنا عن الحرية والديمقراطية والتسامح وحكم القانون». لكن بحلول ال 2 من يونيو حزيران تغيَّرت لهجة بلير بشكل حاد، وكتب لبوش «المهمة مرعبة للغاية ولست واثقاً على الإطلاق من أننا مستعدون لها، هذا أسوأ من إعادة بناء بلد من الصفر»، متابعاً «نبدأ من موقف متأخر للغاية، مع مُضيّ الوقت يمكن حل ذلك لكن الوقت لا يمضي لصالحنا، إحساسي هو أننا سنحقق ذلك لكن ليس بالسرعة الكافية، وإذا انهار ذلك فسينهار كل شيء في المنطقة». ومع إعلان خُلاصات التحقيق؛ اعتبر رئيس الوزراء البريطاني الحالي، ديفيد كاميرون، أن على المشرِّعين الذين صوَّتوا لصالح انضمام البلاد إلى الغزو تحمُّل نصيبهم من المسؤولية عن الأخطاء التي ارتُكِبَت. وأبلغ كاميرون، الذي يستقيل خلال أسابيع، البرلمانَ أمس بقوله «قرار الذهاب للحرب جاء من تصويت هذا المجلس وينبغي أن يتحمل الأعضاء من كل الأطراف ممن صوتوا لصالح العمل العسكري نصيبهم من المسؤولية». يأتي ذلك فيما ذكرت وسائل إعلام أن أعضاءً في البرلمان يقودهم الحزب القومي الأسكتلندي يدرسون إحياء قانون قديم استُخدِمَ للمرة الأخيرة عام 1806 لمساءلة بلير أمام النواب. وفي تصريحٍ لشبكة «سكاي نيوز»؛ علَّق أليكس سالموند من الحزب القومي الأسكتلندي قائلاً «لا يمكن أن يكون هناك وضع تخطئ فيه الدولة بالدخول في حرب غير قانونية لها عواقب مروعة وفي النهاية لا يكون هناك حساب». وكتبت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية، في هذا الصدد، أن زعيم حزب العمال المعارض، جيريمي كوربين، في الانتظار «لأنه يريد أن يعاقب بلير». لكن منصب كوربين مهدَّد بعدما بدأت تحركاتٍ «عمالية» لإقالته إثر تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وردَّ توني بلير أمس بالقول إنه اتخذ قرار الحرب ب «نيَّة خالصة» وما زال يعتقد بصوابية الإطاحة آنذاك بصدام حسين وعدم وجود فرص لتأخير ذلك، معتبراً أن الحرب لم تكن سبباً في الإرهاب الذي يشهده الشرق الأوسط ومناطق أخرى حالياً. ورأى بلير أن التقرير يُبرِّئُه من الاتهامات بالكذب ويضع حدّاً لاتهاماتٍ بسوء النية أو الكذب أو الخداع. وشدَّد خلال مؤتمرٍ صحفي أظهرَ فيه التأثُّر «سواءً اتفق الناس أو اختلفوا مع قراري بالتحرك العسكري ضد صدام حسين؛ فقد اتخذته بنية خالصة وبما اعتقدت أنه في صالح البلاد» و»لم تكن هناك أكاذيب؛ لم يتم تضليل الحكومة والبرلمان ولم يكن هناك التزام سري بالحرب». وأكد بلير قبوله بما خلُص إليه التحقيق من انتقاداتٍ لطريقة إصدار القرارات. وأشار إلى تحمُّله المسؤولية كاملةً عن المشاركة في الحرب واتخاذ «القرار الأكثر صعوبة»، قائلاً «أنا أتحمل كامل المسؤولية وأعبِّر عن ألمي وأسفي (أكثر مما تتخيلون) وأقدم اعتذاراتي» عن الأخطاء التي وقعت. وخلال المؤتمر؛ تحدث رئيس الوزراء الأسبق الذي شغل منصبه بين عامي 1997 و2007 عن «معلومات كانت لديّ» و»تهديدات استنتجتها» ما دفعه إلى المشاركة في الحرب «لأنني كنت أعتقد أن هذا هو الشيء الصواب الواجب عمله». وأبلَغ الصحفيين بقوله «بسبب قرار الولاياتالمتحدة التحرك لم يكن يملك أن ينتظر أكثر من ذلك»، مضيفاً «يدَّعي التحقيق أن التحرك العسكري لم يكن خياراً أخيراً ولكنه يقول أيضاً إنه ربما يكون ضروريّاً في وقت لاحق، ومع كل الاحترام.. لم أكن أملك خيار تأخير ذلك». ورغم الانتقادات؛ رأى بلير أن العالم بات أفضل وأكثر أماناً بعد ما سمَّاه «القرار الصائب» بإزالة حكم صدام حسين. وأقرَّ بوقوع أخطاء «لا تنفي حقيقة أنني أعتقد أننا اتخذنا القرار السليم»، وقال «لو بقِيَ الرئيس العراقي الراحل في السلطة لكان لا يزال يشكل تهديداً للسلام في العالم»، مُشدِّداً على رفض الرأي القائل بأن التدخل العسكري ساهم في زيادة التهديد الإرهابي.