ارتبطت كلمة الحضارة «civlisation» بكلمة أخرى تتصل بها اتصالاً قوياً هي ثقافة «culture»، التي ظهرت في الفرنسية بمعناها الدقيق في القرن الثالث عشر، وفي القرن الرابع عشر ظهرت كلمات مثقف «cultinateur»، زارع ومزارع «Agriculteun»، ولكنها لم تكتسب معناها المجازي بصفتها معرفةً وتربيةً وعلماً إلا في القرن الخامس عشر، وكما سبقت كلمة مثقف كلمة ثقافة، فإن كلمة متمدن أو حضري «Civiliaes»، وأيضاً مهذب، سبقت كلمة حضارة، وعلى الرغم من الخلط الملتبس بين الكلمتين «حضارة» و»ثقافة» في الأدب الحديث والمعاصر منذ أن عرَّف عالم الأنتربولوجيا الإنجليزي إدوارد بيرونت تيلور في كتابه «الثقافة الابتدائية» الثقافة بأنها «كل معقد يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والخبرات التي اكتسبها الإنسان بوصفة عضواً في مجتمع»، منذ ذلك الحين والجدل لايزال مستعراً بشأنهما. ويذهب رولان بريتون في كتابه «جغرافيا الحضارات» إلى أن «كلمة الحضارة civlisation ظهرت سنة 1734م، وهي تنحدر مباشرة من صفة حضري المشتقة من اللاتينية مثل civilite، وcite مدينة – حاضرة». إذاً فمنذ البداية ارتبط مفهوم الانتماء إلى المدنية بجماعة منظمة، تمثل الدولة المدنية، أو تقوم مقامها دلالياً بمعنى التهذيب والتحضر، ومن هنا جاء معنى الكلمة اليونانية «polis» مدينة – حاضرة دولة، ومنها اشتقت الكلمة اللاتينية «politus» صيغة فعل «polin» هذَّبَ، مدَّنَ، وكلمة «politesse» التي مزجت وعدَّلت وميَّزت شيئاً فشيئاً بين مفاهيم التهذيب واللياقة وحُسن الأداء، ومفاهيم النظام العام والدولة والمدنية والحاضرة. وأخيراً وُلِدَت كلمة «civilisation» حضارة من فعل «civilisen» حضر، وهي ترسم في أسرة الكلمات المتحدرة من كلمة «cite» حاضرة، معالم اشتقاقية تدور حول مفاهيم التربية «education» والترقي والتطور والتقدم والحالة المتقدمة المتفوقة، فالحضارة هي أولاً «فعل تحضير»، ومسار تصاعدي وتقدمي، يرمي من خلال التغيير إلى احتواء وإدماج أولئك الذين يظلون خارجها في البراري والأرياف والغابات، «المتوحشون البريون salvaticus»، ثم إن الحضارة هي جملة الصفات المكتسبة خارج الطبيعية، وهي أخيراً مجموع الظواهر المميزة للحياة في هذا العالم الخاص المتطور الذي بناه الإنسان المدني. وربما كان المجمع الفرنسي في معجمه المنشور عام 1933م قد أسدى خيراً عندما عرَّف كلمة الثقافة تمييزاً لها عن الحضارة بالآتي: إن كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية المواهب الفكرية ومواهب العقل والذكاء. وهذا هو المعنى الذي قصدناه بقولنا إن الثقافة هي القوة الإبداعية في التاريخ، وهي كل ما نشهده من تطور دائم مستمر في العلم والفن والأدب. ما يهمنا هنا هو التأكيد على أن الحضارة من حيث المفهوم والسياق التاريخي تتميز عن مفهومَي الثقافة والمدنية لكونها تتصل اتصالاً لازماً بشكل التنظيم السياسي والقانوني والأخلاقي للمجتمع، إنها تعني العيش في مجتمع سياسي منظم بالدستور والقانون والضمير الأخلاقي، فكلما كان التنظيم الاجتماعي خاضعاً للقانون كلما كان أكثر تحضراً، وقد بدأت الحضارات في التاريخ بوجود الدولة الإمبراطورية في الشرق القديم، ويذهب أرنولد توينبي إلى أن الحضارة هي الوحدة الأساسية في دراسته للتاريخ إذ إن كلمة حضارة عنده ارتبطت بقدرة المجتمع على تنظيم نفسه سياسياً واجتماعياً وثقافياً في دول كبيرة، وعنده أن إفريقياً السوداء بهذا المعنى عرفت ثقافات، ولكنها لم تعرف حضارات. وعلى هذا النحو يمكن القول إن الحضارة والثقافة والمدنية، هي قوى وعناصر التاريخ، وما عناصر التاريخ إلا وسائله وأسبابه وغاياته وقواه التي يتطور بها صاعداً في معارج التقدم والتطور والارتقاء، وهي: الثقافة علماً وأدباً وفناً: هي القوة الإبداعية في التاريخ، والتطور الدائم المستمر في العلم والأدب والفن. والحضارة: سياسةً وأخلاقاً وتشريعاً: هي قوة التاريخ التنظيمية، والتطور الدائم المستمر في السياسة والأخلاق والتشريع. والمدنية: زراعةً وصناعةً وعمارةً: هي قوة التاريخ المادية السلعية والتطور الدائم المستمر في الزراعة والصناعة والعمارة والتعدين والتدجين. ولا يكون التاريخ بهذا التعريف إلا مجمل خبرات الإنسان في الثقافة، والحضارة، والمدنية، وهي عناصر التاريخ التي منها يتكوَّن، ومنها لا من غيرها يستمد قواه الفاعلة في جميع ظروف الزمان والمكان والحركة والفعل ورد الفعل والتطور والتكيف واتخاذ الموقف، وهذا ما استخلصه المفكر العربي الراحل مدني صالح.