وربما يعود تخلف الثقافة المعاصرة إلى ذلك الالتباس والغموض في استخدام المفاهيم التاريخية، إذ يتم فيه الخلط بين قوى التاريخ خلطاً تفقد به الأسماء الدلالة على المسميات ولا تدل به المسميات على أسمائها، وفي هذا ما فيه من تعطيل للغة الكلام بقعودها عن القيام بوظيفتها المعرفية العلمية وعن مواكبة حركة التاريخ والتقدم الثقافي، وقد وجدنا من هذا الخلط أن أصحاب الثقافة يتحدثون عن الحضارة ولا يقصدون في حقيقة الأمر إلا الثقافة أو المدنية والثقافة معاً، أو المدنية والثقافة ومعهما الحضارة، ويتحدثون عن الثقافة ولا يقصدون في حقيقة الأمر إلا الحضارة أو المدنية أو الحضارة والمدنية، ومعهما الثقافة ويتحدثون عن المدنية ولا يقصدون في حقيقة الأمر إلا الثقافة والحضارة أو الثقافة والحضارة معاً، وينجم عن هذا الخلط بين المفاهيم والمعاني كثير من الإبهام والتشوش في الأفكار والآراء والتصورات والكلمات. التاريخ الذي نعنيه هو تاريخ الإنسان، تاريخ آدم وأبنائه، ابن الأرض الذي خلقه الله من عناصر فاسدة وجعله يسفك الدماء ويفسد في الأرض، تاريخ قابيل الذي بدأ بجريمة قتل. إنه تاريخ الخوف والجهد والسعي والكد والصراع والتدافع والتنافس والتقالب والحرب والسلام والتعايش والحوار. ولكل كائن في هذا الكون تاريخ واحد هو تاريخه الطبيعي، الذي هو طبعه ونظام سلوكه وقواعده وقانونه. مقاومة الفناء دفاع عن البقاء ولكن للإنسان تاريخان: تاريخ طبيعي: يشارك به جميع الكائنات الطبيعية، وتاريخ وضعي: يضعه لنفسه ويضع فيه العلوم والآداب والفنون والسياسة والأخلاق والتشريع والزراعة والصناعة والعمارة. ولا يكون التاريخ إلا حركة وصراعا وتكيفا بالتطور وتطورا بالتكيف ورد فعل واتخاذ موقف في مواقع محمية وتبرير المواقف وتحصين المواقع، بما يحقق القوة والحماية والعافية والأمن والأمان ولا يكون التاريخ إلا مجمل تاريخ صراع الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة، الذي هو قصة تطوره، الذي هو قصة تكيفه، الذي هو رد فعل الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة بما فيها طبيعته هو، التي هي أشد الطبائع عناداً وتمرداً على التطويع واستغلاقاً على الفهم. والتاريخ تاريخان: تاريخ الضرورة والواقع والحياة، وهو التاريخ الفعلي الذي يدور حول محاور التجارة والحرب والاحتكار، وتلك حقيقة لا خير ولا شر ولا خير ولا اختيار، بل سنة من سنن الله سبحانه وتعالى وحقيقة من حقائق التاريخ، فيه فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون، يخدمون أغنياء أقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب. وتاريخ متخيل: تاريخ الحلم والأمل والرجاء، والمثال الذي نريده ونتمناه ونحلم به يدور حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الآخرين والعدل والخير والجمال للجميع. والتاريخ هو تاريخ صراع وتدافع بين الناس قال تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين). سورة البقرة الآية 251. وهذا ما أدركه ابن خلدون ببصيرته الثاقبة عندما عرف التاريخ بقوله: التاريخ خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتآنس والعصبيات وأصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران لطبيعته من الأحوال). في هذا التعريف الفهرسي الوظيفي، يلخص ابن خلدون التاريخ ومحتوياته ويختصر وظيفته على نحو نستطيع أن نستخلص منه بالاستنتاج بعد التحليل، أن التاريخ في نظر ابن خلدون تاريخ حرب وتقاتل وتقالب وتدافع وتنافس بين الناس وهذه حكمة الله في خلقه، الذي أمر الإنسان بالسعي وتعمير الأرض وجعل الأيام دولاً بين الناس. وخلاصة تعريفنا للتاريخ وقواه وعلى الضد من ذلك الخلط والتشوش الذي عرضناه آنفاً، نرى أن الفهرسة الصحيحة للتاريخ وقواه تتحدد في الآتي: إن أجود تعريف للتاريخ يقوم على أن التاريخ حركة الكون كله أزلية أبدية لا بداية لها ولا نهاية من جميع الجهات إلى جميع الجهات، وصراع أزلي أبدي دائم، إذ هو في حقيقة أمره النقدية إلا رد فعل وتكيف بالتطور وتطور بالتكيف واتخاذ موقف تزيده قوة في مواقع محمية وتزيده حماية في الصراع الدائم لمقاومة الفناء والحفاظ على البقاء ولا شيء يجيء إلى التاريخ يخرج منه ولا تفنى الحوادث ولا تستحدث لكنها دائمة التغير والتبدل والخلق والابتكار والتجديد والإبداع. والإنسان كائن مؤرخ، وله تاريخان طبيعي ولا مصادفة في الطبيعة، وتاريخ وضعي ولا اختيار في فعل الإنسان. وما عناصر التاريخ إلا وسائله وأسبابه وغاياته وقواه التي يتطور بها، صاعداً في معارج التقدم والتطور والارتقاء التي هي: – الثقافة علماً وأدباً وفناً: وهي القوة الإبداعية في التاريخ وهي كل التطور الدائم المستمر في العلم وفي الأدب وفي الفن. – الحضارة: سياسة وأخلاقاً وتشريعاً وهي قوة التاريخ التنظيمية، وهي كل التطور الدائم المستمر في السياسة والأخلاق والتشريع. – المدنية: زراعة وصناعة وعمارة وهي قوة التاريخ المادية السلعية، وهي كل التطور الدائم المستمر في الزراعة والصناعة وفي العمارة والتعدين والتدجين، ولا يكون التاريخ بهذا التعريف إلا مجمل خبرة الإنسان في الثقافة وفي الحاضرة وفي المدنية التي هي عناصر التاريخ التي منها يتكون، ومنها لا من غيرها جميع قواه الفاعلة في جميع ظروف الزمان والمكان والحركة والفعل ورد الفعل والتطور والتكيف واتخاذ المواقف.