إن التوحد الشعوري الذي ألزم به الصوم من رضي الإسلام دينا، يخرج بالإنسان من الانكفاء على الذات والطواف حول موائد اللذات إلى استشعار ما يعانيه من هم بأصقاع الأرض من فقرٍ وحرمان، ليكون ذلك دافعاً له على البذل والعطاء والإنفاق شعاره في ذلك (من مال الله لله)، فهناك من يئن من الجوع أنين الموجوع في الضواحي والأمصار جرّاء نكبات وكوارث كونية. من هنا كان للصوم دعوته الإنسانية للشعور بالآخر وكيف يعيش طوال العام في حرمان ونقصان، ليتمخض عن ذلك الشعور الإنساني تكافل اجتماعي، يجعل من المؤمنين إخوة متحابين بل ويؤلف بين القلوب، ليرى العالم من خلاله روعة الإسلام وإيجابية عباداته التي تدعو إلى الرحمة في أسمى صورها، فلا نفور ولا غل ولا حقد ولا حسد. إن العبادة التي تسمو بالأرواح وترقق القلوب وتجعل للإنسانية في مُثلها العليا النصيب الظافر والحظ الوافر، وتضرب في ذلك المثال المتجرد في العطاء والطاعة والبذل والتضحية ومكارم الأخلاق، التي بعث صلى الله عليه وسلم ليتممها، لهي الأوْلى أن يحذو حذوها كل صاحب قيمٍ وفضيلة. إن من سمات الصوم العظيمة وحدة الهدف ووحدة التوجه ووحدة الامتثال والخضوع لله، فجماعة المؤمنين العابدين تبدأ صومها في ميقاته المعلوم، ليس هناك فرق ولا تفرقة الكل فيه سواء، لتتجلى به أروع صور الوحدة والمساواة بين المسلمين في تقديم شعائرهم لله رب العالمين، إنه شهر الرحمة والمغفرة وإحياء للضمير البشري وجلاء لران القلوب وتحريك للمشاعر الإنسانية من سكونها واستنفارها من كبوتها وإيقاظها من غفلتها، لتأصيل هذه الفريضة العظيمة بجلالها وروعتها ومعناها الإيجابي المنشود. فالصوم عنانٌ للمسلم يروّض تمرده ويجمّل أخلاقه ويقوّم اعوجاجه آخذاً بيديه إلى جادة الطريق، فهو جُنّة للعبد ومرضاةٌ للرب وحصن حصين من رغبات النفس، وهو داعي العطاء والبذل وهو الصوت الجهور داخل الضمير البشري الذي يعيش معاناة الآخرين من خلال الشعور الإنساني، الذي ينبثق من رحم هذه الفريضة العظيمة، وتتجلى في الشهر الفضيل سمات للنفس البشرية من خلال قربها لربها، فهو تهذيب للنفس ونقاء للروح.