البيئة الاجتماعية تشكِّل فضاءً واسعاً، يحوي في مداه كثيراً من السلوكيات الإنسانية المتشعبة في تكويناتها، ومَن «يُقولب» تلك البيئة، ويصنعها بالاعتماد على فكر، أو وعي، أو خلافهما، هم البشر القاطنون في محيطها، ويمكن أن تكون إما راكدة، أو فوضوية، أو حتى معتدلة، ويوجد عديد من المسميات البيئية، مثل: البيئة الزراعية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، وغيرها، لكننا سنسلط الضوء هنا على البيئة الاجتماعية نظراً للتشكيلة البنائية الخاصة بها التي تحوي مقومات مغرية للبحث والاستقراء. حينما تلتقي بمسافر قدِم من بلاد أخرى، سيكون من ضمن الأسئلة التي ستسأله عنها: كيف كانت البيئة السائدة هناك؟ وسيكون الجواب بمقدار ما لمسه المسافر من سلوكياتٍ من أفراد تلك البلاد، قد يقول إنها كانت بيئة جافة وقاسية، وهو معنى متداول وشائع بين الناس، أي أن أفراد تلك البلاد لهم طباع جافة في التعامل، فالبيئة الصحراوية مثلاً تخلو من مظاهر المرونة، أو قد يقول لك أمراً مغايراً، مثل: إن البيئة مملوءة بالازدواجية. سيثير ذلك بالتأكيد عديداً من الأسئلة في داخلك، وستبدأ بالبحث والتقصي عن أسباب هذا الرؤية. إن التوازن الاجتماعي، كما في السياق السابق، هو توازن بين القدرات المادية والمعنوية والروحية داخل المجتمع، وهو ذو صلة بالحقوق، والحريات العامة، ومتى ما أدرك المجتمع أنه ضرورة لنهضته وتطوره، فسيحقق ثورة حضارية باهرة، وإدارة اقتصادية بارزة، ويأتي «التناشز الاجتماعي» خلافه. ويُطلق على «التناشز الاجتماعي»: ازدواج الشخصية، لكن بعض الكُتَّاب يرون أن هذا الوصف «مرضي»، حيث كان يُنعت به الصحفيون، وبعض الكُتَّاب الذين يُظهرون في كتاباتهم غير ما يبطنونه في أنفسهم، لذلك فُضِّل الوصف الآخر، وقد طُلب من الدكتور علي الوردي أن يأتي في تفصيل ذلك، فقال: «من الممكن القول إن هذا الموضوع في حاجة إلى مزيد من التفصيل والتوضيح، إذ اختلطت فيه بعض المفاهيم، وأصبح من الضروري الفصل وتبيان الفروق بينهما». جدير بالذكر، أن ازدواج الشخصية له مفهومان مختلفان أحدهما اجتماعي، والآخر نفسي، أضف إلى ذلك أن ازدواج الشخصية هو في الغالب ليس أمراً شعورياً في البشر، وليس كما يظنه بعضنا من حيث كونه واعياً، وهو في مفهومه النفسي مرض نادر لا يصاب به إلا عدد قليل جداً من الناس، وهو شذوذ في تكوين الشخصية، حيث يتقمص المصاب به شخصية معينة تارة، ويتحول عنها تارة أخرى، وهو ينسى تقمصه، أما ازدواج الشخصية في مفهومه الاجتماعي، فهو ليس مرضاً نفسياً، بل ظاهرة اجتماعية، يتصف بها كثير من الناس في مجتمع معين، إذ هم يتعرضون في نشأتهم الاجتماعية إلى نظامين مختلفين في القيم، فترى الواحد منهم يسلك ويفكر حسب أحد النظامين تارة، وحسب النظام الثاني تارة أخرى. هذه الظاهرة الأخيرة التي أوردها الوردي، هي من «التناشز الاجتماعي» ومنتشرة في المجتمعات العربية بشكل كبير، ونجدها ماثلة أمامنا في أغلب المشاهد الحياتية العامة، ما يخلق حياة مأزومة في تكونها، ويضفي طابعاً متخلفاً لاحضارياً، ويقمع الطموحات المندفعة نحو خطط استراتيجية للتنمية على صعيد المجتمع والوطن. بعضهم لا يدرك أن «التناشز الاجتماعي» يؤثر سلباً على البنى الفكرية للأفراد، ويطمس الوعي والتفتح الثقافي، لأن منهجيته قائمة على العصبية القبلية، أو العادة وإن كان لا أساس لها من الناحية العلمية، أو الإسلامية، فالتشبث بها وتداولها بنمطية فاترة يكلفنا مزيداً من التأخر، كما يسلبنا القدرة على الاهتمام بالجوانب المعنوية والروحية والفكرية، وحلِّ المشكلات الاجتماعية التي مازال كثير من بقاياها سائداً. فهل سيبقى «التناشز الاجتماعي» ماثلاً في حاضرنا، ويخترق «هيكليتنا الاجتماعية» دون النظر في التغيير؟