قال الشاعر الأعرابي، وفي قوله أناقة: فلما قضينا من مِنى كل حاجةٍ ومسح بالأركان من هو ماسحُ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطحُ هذه لمحة بارعة، شخّص فيها عقل الشاعر (الصوت/ الأحاديث) فجعله كيانًا محسوسًا ذا أبعاد، وجعله مكانًا للتنازع والتجاذب، ليس تنازع الصراع قدر ما هو تنازع الالتذاذ والمؤانسة. إنَّ أعجب ما يدهش في العربي الأول أن عقله كان عقلاً لغوياً، إنه كان إنسانًا من لغة أو هو لغة تمشي على الأرض بينما نحن الآن طفولة لغة لا تكاد تبين أو تفصح أو حتى تستطيع قراءة ما يبين ويفصح. لقد أمسك الأعرابي لحظته فأحالها إلى لحظةٍ شعرية، إنه قيَّد ظرفه بقيدٍ لغوي واللغة حين تصف أو العقل الشعري حين يصف يتعالى فيه الإدراك حتى تكاد تلمس المعنوي كأنه محسوس مجسم له حيز وابتداء وانتهاء وطرف أو أطراف. قال ابن منظور في اللسان: طرف الشيء، منتهاه والغاية منه. وطرف الشيء جانبه أو حافته.. إلخ. غير أن المفارقة في كونها أطراف الأحاديث، والأحاديث لا تنفك عن كونها أفكارًا فكأنه يحدثنا عن أطراف الأفكار، والأفكار جمل وعبارات شفاهية قد تتحول إلى تدوين أو كتابة وحينها نكون بإزاء طرف العبارة أو طرف الجملة أو طرف الفكرة على اعتبار حيزها وكونها مكتوبة. أطراف الأحاديث قد تكون أطراف حيزها حين تُكتب، لكن الأعرابي الأنيق لم يكن يعرف نظام الكتابة ولا يعنيه. إننا حين ننظر في لمحته اللغوية البارعة لا ندرك اللغة بالآلة الذهنية التي تعامل بها هو مع اللغة، إننا نحاول إعادة اللغة إلى منطقها الدلالي وتفكيكها عن منطقها الشعري، مع أن حس الأعرابي الشاعري كان برهافته وأناقته يعقد رابطة وإلفًا بين المعنوي والمحسوس وهو ما تفعله اللغة الشعرية عادةً. إنه حوّل الأحاديث إلى موضوع للالتذاذ والإمتاع والمؤانسة كما كان يفعل أبو حيان إلى الحد الذي كان معه وأصحابه يتنازعون تلك الأطراف تنازعا ويمسك كل واحدٍ منهم بطرف. ليست هذه لعبة لغة بقدر ما هي إمكانات لغة. إن اللغة في مجازاتها واستعاراتها تعيد تنظيم الإدراك للأشياء، إنها تجعل لها امتيازات خاصة وصفات مغايرة وهي لا تفعل ذلك بغير قرائن منطقية أو قرائن دلالية. لا أريد أن أتحدث الآن عن القرينة الدلالية في لمحته البارعة (أطراف الأحاديث). إنما الذي نعلمه كون طرف الشيء تنبيهًا لنهايته أو انقضائه وإذن هي أحاديث لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، ربما لأنها قصيرة أو موحية أو مرغوبة أو لأنها في مكان تنازع أو لأنها لذيذة متصرمة سريعة الانقضاء. إن طرف الشيء وحشة تصرمه ومنه طرف اللقاء وطرف الزمان والمكان، وإذن فإن طرف الحديث يكون في لحظة انقضائه وانقطاع الصوت به. أي أعرابي مدهشٍ هو؟! إنه ابتدع الوصف ابتداعًا، إنه جعل أطراف الأحاديث مسكوكة خاصةً به هو وأنا أعيد تداولها اليوم.