لنفترض وجود مستشفى بميزانية متوافقة مع نطاق خدمة ذلك المستشفى من حيث العناصر الطبية والإدارية، والتجهيز، والبنية الأساسية، فهل نتوقع غياب المشكلات، التي نشهدها الآن، وتثار حولها الحوارات الإعلامية والمجتمعية؟ الإجابة في رأيي «لا». عند تأمُّل الرأي العام «المتعرض» للمشهد الصحي في بلادنا من قِبل النخبة، والعموم، تجد ارتباكاً واضحاً في تحرير الإشكال المسبِّب للخلل في الخدمة الطبية، وانحيازاً ظاهراً للظن بأن التمويل هو المشكلة، لذا تجد نوعاً من الضغط في اتجاه فكرة التأمين، الذي هو وسيلة تمويل للخدمة الطبية، فهل الأمر كذلك حقاً؟ كيف يمكن فهم إحضار وسيط، يتربَّح ليموِّل الخدمة لننتظر فارقاً في المهنية والإنجاز؟ يسأل أحدهم! وفي حالةٍ، مثل وطننا، تقوم الحكومة بتمويل الخدمة وبسخاء ملحوظ ومتطور، أحدث فرقاً خلال الأعوام الماضية، لكنه غير مؤثر بما يكفي، لماذا الذهاب إلى شركات التأمين بما تحمله من إشكالات معقدة ليست في صالح المريض؟ يسأل آخر. لاشك في أن تمويل الخدمات الطبية له أهمية كبيرة، لكن المشكلة الرئيسية في خدمتنا الطبية المحلية ليست في الدعم المالي، بل في مكان آخر لايزال الضوء حوله خافتاً. حتى يمكن فهم جوهر الخلل نحتاج إلى مقدمة، تلخص، وتمهد للفكرة المنشودة. من الملاحظ عدم وجود مرجعية عامة للحكم على مستوى الخدمات الطبية عدا المزاج العام للمجتمع المظهر للعثرات، والمدعوم من أداء إعلامي غير علمي، وغير محايد، فتختلط العاطفة مع العقل، والحقيقة العلمية مع التطلع الإنساني، ما أدى إلى مشهد مرتبك، يرفده تعدد الجهات المقدمة للخدمة، ما يربك المرجعية العامة أكثر. عندما يقال إن الإشكال في الفكر الإداري، فهذا حتماً صحيح، لكن «التسطيح» يبلغ مداه حين يمارسون التفكير بطريقة «الإحلال» بأن هذا الكائن الشرير المسمَّى طبيباً لابد من عودته إلى عيادته ليحل محله مَنْ حصل على مؤهل إداري، ويغيب عن بالهم عمداً، أو جهلاً أن المنظومة الإدارية بمجملها معطوبة ابتداء بنظام الخدمة المدنية، وقرينه نظام التشغيل الذاتي المسيّرين للعملية الإدارية والمالية، وليس انتهاءً بفكر الموارد البشرية المشتَّت بين مؤسسات متنافرة في التنسيق والتدريب والتأهيل، وكل منها «يغني على ليلاه» بطريقته الخاصة، وما معاناة الممارسين الصحيين الجدد بمَنْ فيهم الأطباء مع هيئة التخصصات الصحية والخدمة المدنية إلا مثال صارخ هنا. ومازلنا في المقدمة، وفيها ما يمكن تسميته «الأفكار الطيارة» من مؤسسات كبرى مثل: مجلس الشورى، وغيره، وبعض النخب حين يطالبون مثلاً بهيئة خاصة للأخطاء الطبية! أو حين يبشرنا المجلس المركزي لاعتماد المنشآت الصحية بأكبر دراسة لرصد الأخطاء الطبية، وهذا والله تضييع للوقت، فلدينا كنز من الوثائق عند لجان التحقيق، ومحاضر جلسات الهيئات الصحية الشرعية تصلح لأن تكون مرجعية متكاملة لمعالجة الأخطاء المهنية، فلماذا كل هذه «الحيدات»، وهدر الموارد والجهود، ولماذا يظل فكر التشتيت متربعاً على عرش بيروقراطية لا تُنجب؟ دعونا نعترف بضعف التكوين والفكر العلميين في مجتمعنا، فعندما تكون المنشآت الطبية مفتوحة على المجتمع، كحال وزارة الصحة، وغير محروسة بأسوار إدارية ونظامية صارمة، كما في «التخصصي»، و«الحرس»، وبعض المستشفيات العسكرية، فإن تسرب ثقافة مجتمعية تقلِّل من شأن العلم وتأثيره، وتعاند أدبياته، تجدها ملازمة لكثير من الموظفين المتوقع منهم تعزيز المنتج العلمي المتحكم في خيوط العملية الطبية، والمآل النهائي لكل هذا لم يعد خافياً، لكننا نراوغ بصفتنا مجتمعاً في الاعتراف به لجرحه نرجسيتنا البائسة. نتساءل هنا كيف يمكن نصح صاحب القرار؟ هل ننصحه بالخصخصة، وبالتالي التأمين، فالتمويل، لكننا مرتابون حيال التسليم بأن التمويل هو المشكلة مع إحضار وسيط يتربَّح، فضلاً عن خبرتنا مع القطاع الصحي الخاص المحلي ومشكلاته؟ ونتساءل كيف يمكن للخصخصة أن «تجوس» خلال المناطق المعتمة غير المعالجة مثل: ضعف مخرجات التعليم الطبي، والفشل في التخطيط التنموي المتوازن للعناصر البشرية، وحراسة المهنية الطبية من ثقافة المجتمع، وإيقاف الهدر بالأداء المتقن العلمي لا التقتير المالي؟ وكثير من الأسئلة المستحقة..!