كل المجتمعات البشرية وبدرجات متفاوتة محكومة بالقرابة التي تشكل مجموعة النسل والإرث والطقوس والأدوار... إلخ، وبنسب مختلفة. سواء تلك التي يمثل فيها نظام القرابة تعقيدا أقل ودورا أقل كما هو الحال في المجتمعات الغربية، أو تلك المجتمعات التي تميل للاعتماد على نظام القرابة بشكل كثيف لتحديد وتوزيع الأدوار الاجتماعية والاقتصادية لأفرادها كما هو الحال في المجتمعات الشرقية بشكل عام إن جاز لي تعميمها. ولهذا فإن نظام القرابة والعائلة يمكّننا من فهم أوسع لطبيعة المجتمع الذي تتم دراسته من خلال هذه الأنظمة الاجتماعية. والجدير بالذكر، أن نظام القرابة هو في أساسه عملية عقلية وليس تطبيقية أو منهجية تسير على أسس عالمية ثابتة، فالناس ينظرون لنظامهم القرابي والعائلي، بتداخلات فلسفية، ودينية، واجتماعية وهذا ما يسبب اختلاف النظرات والاعتبارات الاجتماعية والفكرية لهذا النظام. فعلى الرغم من أن أنظمة القرابة تعتمد بشكل أساسي على العلاقة البيولوجية، فإنها ظاهرة اجتماعية وثقافية. فالطريقة التي يصنّف فيها المجتمع نظام القرابة المتبع لديه، هي ظاهرة ثقافية، اجتماعية، وليست بالضرورة أن تكون معتمدة بشكل علمي على الروابط البيولوجية (علاقات الدم). فلفظة الأب، قد تطلق على الأب البيولوجيgenitor، وقد تطلق على من يقوم بتولي مسؤولية الطفل، وتنشئته وهو ما يسمّى بالأب الاجتماعي Pater. عندما يتم تأسيس الأبوة بالزواج، فإن الأب هو زوج الأم. وفي المجتمعات التي تمارس النساء فيها تعددية الأزواج، كما هو الحال في تودا الهند، الأبوة البيولوجية غير مهمة. فالأبوة يتم تحديدها من خلال طقس، مما يعني أن الأب الاجتماعي هو المهم هنا. وبما أن الأنظمة القرابية هي خلق اجتماعي، فهناك عدة طرق للنظر للمصاهرة، وقرابة الدم وتصنيفهما حسب المجتمعات المختلفة. كما أن هناك اختلافات في أنواع الجماعات الاجتماعية المكونّة من خلال القرابة، والطريقة التي يُفترض بهذا النظام، أن يعمل تجاه الأنظمة الأخرى . في الأنظمة ثنائية الانحدار، يتم التركيز على القرابات البيولوجية، على عكس القرابات المعرفّة اجتماعيا وثقافيا. يؤكد الباحثون مدى تعقيد نظام القرابة وفي مقدمتهم مردوك الذي درس مختلف المجتمعات البشرية متناولاً عينة مكونة من «254» جماعة اجتماعية مختلفة وجد فيها جميعاً مؤسسة العائلة. ومن المعروف أن هذه العائلة تشترك مع العائلة الحيوانية بقضايا أساسية مثل الجماع والجنس والإنجاب والموت، ولكنها تتمايز عنها بوجوه غير بيولوجية ذات طابع حضاري، مما يعني أن العائلة البشرية ليست مجرد علاقات محددة ذات طابع بيولوجي، «والعلاقات القرابية علاقات تفاعلية تقوم على التفاعل المباشر بين الأفراد (علاقات وجه لوجه) ويفتخر الأقارب بانتماءاتهم... ويلتزمون تجاه بعضهم بواجبات اقتصادية واجتماعية وتمتد هذه العلاقات لتشمل أبعاداً تتجاوز الجانب الاجتماعي إلى العلاقات الاقتصادية والسياسية ، فنسق القرابة ينطوي على الحياة بكل أبعادها مما يعقد وظيفة القرابة» (كما ذكر جرادات). يلاحظ المهتم والدارس لأنظمة العائلة والقرابة في العالم وبشكل مباشر وجود اختلافات كبيرة لأشكال العائلة/ الأسرة وما يترتب عليها من الأشكال المختلفة في النسب، بالشكل الذي تختلف معه نظم قرابة الأشخاص لبعضهم البعض، وأنواع الصلات المختلفة التي تربط بينهم وما يترتب عليها من تحديد للعلاقات والواجبات والمميزات المتبادلة ما بين الأشخاص ذوي العلاقة. فشكل الأسرة هو أهم العناصر التي تحدد علاقة الأب والأبناء والأحفاد والإخوة والأخوات، وكذلك يربط الزواج أشكالا أخرى من القرابة تربط الزواج بأصهاره والأبناء بأسر الأب والأم. ولهذا يوجد نوعان أساسيان من أنواع القرابة، أولهما: القرابة الدموية سواء بالقرابة المباشرة الدموية أو الاعتبارية بالتبني. وثانيهما: القرابة التصاهرية التي تحدد بناء على نوع الأسرة السائد من حيث خط النسب الذي يوضح التسلسل القرابي، ومبدأ التبادلية الذي بمقتضاه ينادي الشخص من جيل لشخص آخر. وكذلك من حيث مصطلحات القرابة التصنيفية والوصفية المستخدمة في كل مجتمع. التي بناء عليها تظهر أنماط مختلفة من القرابة. ولنفهم هذه الفروقات في التعامل مع نظام القرابة، فمن الجيّد استعراض أنظمة القرابة العالمية، وملاحظة الفروقات في تركيباتها الاجتماعية، والفكرية. إن تفسير أنظمة القرابة يعكس الجماعات القرابية المهمة في مجتمع ما. وقد توصّل الأنثروبولوجيون، إلى تعريف ستة أنواع من الأنظمة القرابية التي هي كالتالي: نظام الهاواي، نظام الإسكيمو، نظام الأوماها، نظام الأروكيس، نظام كرو، والنظام السوداني (النظام الإفريقي). سأقوم في المقال القادم بطرح موجز عن هذه الأنظمة وتركيبها والاختلاف فيما بينها ليتضح لنا حجم الفروقات الثقافية والاجتماعية في التعاطي مع العائلة والقرابة حول العالم، آملا من خلال ذلك أن نتجاوز في عقليتنا العربية رؤيتنا الضيقة لبعض الأمور التي نؤمن فيها كمسلمات تحجب الكثير من قدرتنا على الرؤية العلمية من خارج جميع الدوائر.