عالم الخيال هو العالم الخاص الذي فيه تكون الحياة بخياراتنا وبطريقتنا، فيه نصنع لأنفسنا عالماً لا يشبه أي عالم، فيه نهرب من كل شيء حتى من أنفسنا، فيه ننزع أقنعتنا نتجرد من ماضينا، حاضرنا، وحتى مستقبلنا، فيه نتحرر من القيود نصبح عراة من كل شيء إلا من ثيابنا، وأحياناً بعضهم حتى ثيابه يتجرد منها! ولكن العوم في هذا العالم يقود للغرق؛ وأن تغرق يعني لا موت ولا حياة، فقط فراغ يحيط بك ويملأك، وتبقى عالقاً بالخيال والأوهام ولا نجاة لك ولا حياة. جميعنا، صغيرنا وكبيرنا، في يومنا هذا أصبحنا نستخدم الأجهزة الذكية بمختلف أشكالها، وهذه الأجهزة موصولة بالإنترنت الذي اغتال عالمنا الحقيقي وحل محله، إذاً فحياتنا محصورة في شباك الإنترنت، وبدلاً من أن نخرج من حجرتنا ونقابل أصدقاءنا أصبحنا نكلمهم ب «سكايب وواتسآب» ووسائل الاتصال الاجتماعية الأخرى! وبدلاً من أن نحضن أحباءنا بشوق وشغف لمعرفة أخبارهم وأحوالهم، أصبحنا نحضن هواتفنا التي تَمتلئ بصورهم وكلماتهم، وعندما نراهم نحضنهم بفتور وبرود وكأن مشاعرنا ماتت! ليس هذا فحسب، بل إن بعضنا تجرد من جميع أقنعته الزائفة وظهر على حقيقته القذرة؛ ففي هذا العالم تلاشى حياء الفتاة وماتت مروءة الرجل، وكلهم هاج وماج لأن هذا العالم بلا قوانين وبلا أسوار، فيه تستطيع أن تكون ذكراً أو أنثى، شريراً أو خيّراً، صغيراً أو كبيراً، فيه تختار ما تريد أنت، لا أن تنحني لما فرضته الحياة عليك! إن هذا العالم جعلنا وحيدين منعزلين ونحن بين الناس وجعل أطفالنا منطوين على أنفسهم التي حاصروها بأجهزتهم؛ فلم يعد هناك صوت وضجيج، جري وضحك، ولم يبقَ بيننا أحاديث وسمر! أصبح عالمنا هادئاً هدوء المقابر، نعم مقابر وقبور حفرناها نحن لأنفسنا وسكناها برضانا. لقد انقلب الميزان وأصبح عالمنا الحقيقي الواقعي افتراضياً، وأصبح العالم الافتراضي واقعيّاً، وبتنا أمواتاً في الحياة أحياء في عالم الإنترنت! هل هذا ثمن التطور والتقدم؟ هل الثمن أن نخسر حياتنا ونعيش كالأموات؟ هل الثمن أن نستبدل علاقاتنا وتواصلنا الملموس والمادي بتواصل جاف خال من المشاعر والعناق والمواساة و الحب، تواصل لا يسمح لنا بملامسة بعضنا، إنه تواصل خادع يجعلنا نكذب ونتصرف بنفاق وتجاهل، تواصل يصنع منا أشخاصاً آخرين ويعطينا تسلية جارحة للأخلاق ومُضيعة للوقت وقاطعة للرحم. إن الحياة التي نحياها في عالم الإنترنت ليست حقيقة إنما هي كحلم اليقظة تغرق فيها في سبات عميق وإذا استيقظت لا تعلم كم لبثت! حيث ترى أن الحياة الحقيقية مستمرة، وأن الناس يسيرون وأنت واقف بلا حركة تشعر بمن حولك لكن لا أحد يشعر بك وكأنك لست موجوداً، والحقيقة أنك لست موجوداً.