الجمعة 17/ 5/ 1437ه، الساعة 11 مساءً في مستشفى عسير المركزي، تدحرجت الذكرى بين زوايا العتمة، وخواطر البوح، وتباريج السفر… لا الدمع يكفكف آلام الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفِّف لوعة الفقد، وألم غياب شقيق روحي، ورفيق دربي الأديب محمد البريدي، رحمه الله. الموت بجلاله ورهبته عصف بكل شيء من حولي عندما تم إعلان توقف قلب أبي مازن «زرياب زمانه»، كل شيء أصبح في لحظتها مُرَّاً، بل هو العلقم تجرعته مرارة وألماً. كل ما حولي ساعتها يوحي بالذبول حتى الكلمات تحشرجت، أحاول أن أستعيدها لتبقى على خط الحياة. عاد بي شريط الذكريات إلى الأيام الأخيرة في حياة أخي أبي مازن، كنت أتحدث معه عن نتائج التحاليل، وأنها سوف تكون مطمئنة، همس في أذني وهو مبتسم: «بل سوف تكون مريحة. لا تقلق هناك ما هو أجمل يا زاهر». كان يتحدث عن الموت، وأنه لا يُشكِّل رهبة بالنسبة إليه، وكان يكرر: لماذا يكون رهبة؟ وهو ينقلك من محطة إلى محطة أخرى أفضل و»أريح»، وربما يشير إلى تعبه من «دوزنة الكلمات»، وصناعة نصوص الجمال في مجتمع بعثرته الصراعات الفكرية. عندما كان يتحدث بهذه الكلمات في حياته، كنت أستمع إليه، والصمت حاضر، وبعد فقده أرددها متعجباً من قوة الإيمان والثقة بالله، التي كان يتصف بها أبو مازن، وتعد نموذجاً لمَنْ أراد أن يفهم معنى الحياة الدنيا، وهي المحطة الأولى التي لا تستحق التشبث بها أو الخوف منها، وإنما الخوف من المحطة الأخيرة، التي نسير إليها شئنا أم أبينا، وتعد راحة لمَنْ وفَّقه الله. لن أبكي أبا مازنٍ، لأنه رحل عن الدنيا، بل سأبكي نفسي، لأنه تركني فيها. كل ألمي ودموعي وقلقي سببه أنني لن أراه في الدنيا مرة أخرى، لن أستشيره، لن أستمع إلى تحليله النموذجي للمواقف والأحداث من حولنا. انطفأت شمعة كانت ذات وهج في حياتي، وأعلنت أن قطار العمر ماضٍ، والأيام حبلى بالقدر المحتوم. وهنا لا أشك لحظة في أن الموت يكون برداً وسلاماً على الراحلين المؤمنين ورضاً وتسليماً على الأحياء الصابرين. لقد أثارت فاجعة رحيل أبي مازن غصة في حلقي، وانحساراً للمجالس الجميلة، وانطفاءً لومضة نبل إنساني في حياتي. ترك أبو مازن الدنيا والوسط الثقافي والاجتماعي الألمعي يبكيه حباً وفقداً، ودعوةً بالاجتماع في جنة الخلد، بإذن الله، ولعل هذا هو العزاء. وإنا لله وإنا إليه راجعون.