ذاك المساء مُر في فمي، كل ما كان حولي يوحي بالذبول!، حتى الكلمات تتعثّر فأنازعها للخروج، أويعقل أن أمواج الموت قد هبت سراعاً! أم أن ساعة التوديع حلت معلنة الثلاثاء27/3/1435ه ميعاداً لرحيل الشيخ عبدالعزيز بن بدر العسكر عن هذه الدنيا. يشهد الله أنك يا جدي لم تكن شخصاً عادياً، كنت معلماً فذاً ومربياً قديراً وشيخاً فاضلاً، كنت باراً بوالدك واصلاً للرحم، كنت أباً عطوفاً وجداً حنوناً، كنت طلق المحيا، قائماً لليل، ذاكراً لله قائماً وقاعداً، هاشاً باشاً، رحيماً بالمساكين وقريباً من المستضعفين، قاضياً لحاجات المحتاجين. من عرفك أيقن أن الله ما سلب بصرك إلاّ ليكرمك ببصيرة لا تمنح لأي أحد.. من عرفك شاهد كيف كنت تطوي الأرض عزيمة وإصرارًا.. أكملت دراستك الجامعية متخرجاً من كلية الشريعة ظافراً بأعلى المعدلات، مقبلاً على الحياة بنية نشر العلم.. آثرت سلك التعليم على القضاء وأنت القادر عليهما.. من عرفك أيقن أنك كنت مرشدنا في كل سؤال ديني أو فتوى أشكلتنا.. من عرفك لمس فيك حرصك على أن تخرّج جيلاً بتربية دينية صالحة. فنعم المربي كنت. لازمك القرآن حتى آخر صباح صاحت فيه أجراس الأطباء منتحبة تخبر فيها عن دخولك في حالة حرجة. لقد أثار رحيلك غصة في الحلق وانطفاء ومضة نبل إنساني.. وإذا اجتمع في المرء النبل وحب الخير وكرامة النفس والسعي في حاجات الناس فقد ترك الدنيا وهي أحسن مما وجدها. رحلت يا جدي وأنت زائد في الدنيا ولست زائداً عليها! عقدان من عمري توجتها بحنانك، علمتني فيها أن الحياة أقصر من أن نقضيها متشاحنين، أن الزمان وإن أمهلنا إلاّ أن لحظة ما ستنهينا!.. علمتني أن من كرم الإحسان أن لا تنتظر مقابلًا.. علمتني يا جدي أن الحنان ينبوع جف برحيلك. عجلت الرحيل تاركاً خلفك جرحاً غائراً لا يندمل. صدقت مع الله في كل تفاصيل حياتك، وبرك بوالدك، وإحسانك إلى أخوتك، وزوجك وبنوك وأحفادك، وعطفك على كل قريب أو محتاج فصدقك الله!.. كان هاجسه الأخير قبل أن يُنقل إلى المستشفى بره بوالدته التي فقدها قبل أن يدرك. أي نفس بشرية هذه التي تكابد الألم بصمت فلا يؤنسها إلاّ البذل والبر والخير.. لم يكفه همنا وإنما اتسع قلبه ليحوي مشاكل وهموم أوضاع المسلمين في قاطبة الأرض، صدق من قال يا جدي (قلب لايبالي يعيش طويلا) لذا قلبك المشغول اختاره الألم ففارقنا باكراً. كنت هيناً لينا يا أبا فهد حتى في موتك! اختار الله ألا يفجعنا بك خلسة في لحظة غفلة وألا يطول عليك مرضك فيشجينا ألمك، فأي كرم وهبتنا إياه يا الله بأن جعلتنا من ذرية الشيخ عبدالعزيز العسكر. رثاؤك عسير وأنا التي لا تجيد الرثاء ولا تحبه ولكن من باب برك وأنت الذي تحرص وتحب قراءة سير المتوفين وخواطر ذويهم لتذكرهم بالدعوات، دافعت نفسي لرسم هذه الحروف مواسية إياها بذكرى كل مرة قلت لي فيها (وش قالوا في فلان المتوفى الله يرحمه يا بنيتي). مصابنا عظيم وفقدك لا يشبه أي فقد لكنها أقدار الله، اشتاق لك فاختارك إلى جواره فالحمد لله على أقداره، والدعاء لك خير ختام.. اللهم بعدد ما عطف وبر ووصل ارفع درجته، اللهم اجعله مع النبيين والصديقين والشهداء، اللهم ابن له بيتاً في الجنة واجعل ملتقانا هناك. سلامٌ عليك ياجدي حياً وميتاً.