ضخامة الأحداث التي عصفت بأنظمة عربية عسكرية، عطلت حاسة النقد السياسي والفكري بعض الوقت، الضائع بملاحقة التفاصيل اليومية للأحداث. مازال نقد ثورات الربيع العربي هو ردود فعل انطباعية أولية غير عقلانية وجهتها بوصلة المصالح الفردية لبعض النخب، لا تختلف كثيراً عن المدائح التلقائية الشعبوية التي قيلت. في كل حراك ضخم أو تحولات كبرى من المفترض أن تنشط الأسئلة النقدية لفهم الظواهر الاجتماعية والسياسية، وتقييم أداء اللحظة الانفعالية. النقد الحقيقي المطلوب ليس عملية صناعة حيل ذهنية جديدة لخلق واقع وهمي، وتجاهل حقيقة الواقع الذي يتشكل يوميا. عملية النقد لا تكون بمثل هذه الأسئلة الاستنكارية البليدة: هل هذا الربيع الذي تحدثونا عنه؟، هل تحول الربيع إلى خريف أو شتاء؟، هل هذه ثورات أم مجرد غضبة هوجاء؟! وكأن قضيتنا الكبرى مع كل حدث صراع دائم حول الألفاظ..على طريقة نكسة أم نكبة!، النقد المطلوب ليس بتكرار القول بأن الصورة ليست زاهية عبر عموميات تشاؤمية لمواجهة عموميات تفاؤلية حول المستقبل. القضية ليست ما هو رأينا هل ما حدث شيء جميل أم لا؟! فقد حدث دون أن يستأذن أحدا: لا فقيها ولا شيخا ولا مثقفا ولا ثوريا متخشبا منذ الستينيات، ولا شرقا أو غربا. مثقف الممانعة تحول إلى صف الثورة المضادة بعد أن كان في بدايات الربيع العربي ثوري جدا! وبعد أن كان يتهم الخليج بدعم الثورة المضادة أصبح يرى الربيع ملوثا بالنفط، وأن الجامعة العربية احتلت خليجيا. يتوهم البعض بأن نقد هذه الثورات ممنوع، وأن الجو العام الغوغائي هو السبب في ذلك، والواقع أن نقدها بدأ منذ اللحظة التونسية في الإعلام العربي لامتصاص الأزمة، لكن الأحداث في الواقع كانت أسرع من أي كلام ومن كل وسيلة إعلامية. الواقع ذاته كان يتحدث بسرعة عن خريف أنظمة عسكرية لم تعد صالحة للبقاء. ولم يكن وصف «الربيع» إلا تعبيرا مجازيا عن مشاهد الفرح التلقائي لشعوب احتفلت بهذا السقوط. يظن البعض أنه بمجرد استعمال كلمات: غوغائية الجماهير، رأي القطيع، مع هجاء حركة الشارع، وجمهور الميادين، أنه استكمل الأدوات العقلانية لوصف الأحداث وتقييمها. يظن أنه الأكثر ذكاءا عندما يلتقط مشاهد سيئة ليبدي تحفظه على ما يحدث. في هذه الفوضى والانهيارات السياسية الكبيرة، ليس الغريب ظهور الكثير من العيوب، المفاجأة كانت في وجود جوانب مشرقة، فقد بالغت النخب العربية في ازدرائها للمجتمع العربي في داخلها وإن لم تكتب ذلك، ولهذا كانت الأحداث صدمة كبيرة لها. لقد تعطل نقد هذه الثورات في البدايات تحت تأثير الصدمة. هناك الكثير مما يمكن قوله في نقد هذه الثورات، والتحفظ على عدد لا يحصى من الأخطاء، لم يمنع أحدا النقد بل هو مطلوب في كل وقت، لكن المشكلة كانت في العجز عن صناعة رؤية نقدية عقلانية متسقة مع الواقع الجديد الذي يتشكل. ولأنه سقط النظام المفاهيمي القديم المستعمل في تقييم الصواب والخطأ السياسي، فقد أصبح البعض عاجزا عن التعامل مع الحدث باستثناء شعور القارئ باكتئابهم من التحولات بين سطور مقالاتهم! يمكن اعتبار انضمام مثقف الممانعة القريب من البعث السوري لنقد الثورات نقلة مهمة بما يمتلكه من مهارات ثقافية. خاصة تلك الأقلام التي تحاول التظاهر بأنها ليست مع نظام بشار، وتضع مسافة بينها وبينه.. مع أنها في الحقيقة أقصر من طول «بلانك» الفيزيائي! ظهرت بعض الكتابات الفخمة جدا في ألفاظها الثقافية لهجاء الثورة. مثل ما طرحه الكاتب السوري باسم شبكي «نارام سرجون» عبر مدونته في عدة مقالات هجائية تشبه كثيرا أسلوب «عماد فوزي شعيبي» في استعراضاته المعرفية، وفيها من ملامح أسعد أبو خليل الشتائمية. أحد هذه المقالات نسبت إلى غسان بن جدو وانتشرت في كثير من المواقع الإلكترونية. يبدأ هذا المقال (19 / 2/ 2012 م) بالقول بأنه لا يعترف بهذه الثورة لأنه «لا يحب السير مع القطيع الذي تقوده الذئاب.. بل وتسير بينه الذئاب.. ولا يحب الثورات التي لا تعرف نكهة الفلسفة ولا نعمة الفكر..». «وأن غياب الفكر والفلسفة يجعل الثورة تمردا ليس إلا ولا تحمل إلا صفات الانفعال الشعبي والغوغائي.. فالثورة الفرنسية كانت رغم عنفها وجنونها ثرية بالفلاسفة والمفكرين الذين صنعوا من فعل الثورة حدثا مفصليا في التاريخ...». تبدو فكرة غياب الفلاسفة جذابة علميا،لأنها تقوم بمقارنات مدرسية بليدة عبر القياسات التاريخية المباشرة لفهم الثورات. تبدأ حالة التباكي لأنه لم يجد فولتير منتظرا كان يجب أن يظهر قبل أن يطالب الشعب السوري بحقوقه. وكأنه لابد للمجتمع العربي أن يعيد اختراع العجلة، ويعيد قصة تطور العلم والحداثة السياسية من جديد. فتبدأ عملية البحث عمن يمثل دور جاليليو في اكتشافاته، وعمن يمثل دور فولتير الفلسفي! وكأن هولاء لا يؤمنون بالتراكم المعرفي البشري، فنبدأ من جديد في تحديد معنى الدولة، والحرية، وحقوق الإنسان، والمواطن، والديمقراطية! هل معنى الكرامة ورفض القمع والقتل التي ينشدها المواطن السوري بحاجة إلى انتظار فولتير آخر؟! تاريخيا كل ثورة حدثت سنجد للعلم والتطور الحضاري أثرا كبيرا. كل اختراع أو مفهوم جديد يصنع واقعا مختلفا، مهما تأخر فلا بد أن يحدث التغيير. في هذه الأحداث: الإعلام الجديد، والثورة التقنية ومواقع التواصل، شكلت واقعا جديدا أنهت فعالية إعلام أنظمة عسكرية بالية. وإذا كان لا بد من «فولتير» لثورات الربيع العربي.. فقد كان «تويتر» هو فولتيرها، وإذا كان لابد من «دي ميرابو» خطيبا.. فإن «اليوتيوب» هو خطيبها!