إخوان بريدة مرتبين عند فهد العبيد على شكل دوائر. ثمة المحبون والصفوة وصفوة الصفوة. لهذه الحلقة الأخيرة رباط عاطفي، كأي جماعة أيديولوجية. اعتمد فهد العبيد في صيانة جماعته وتواصلها وإدامتها وشدّها إلى بعضها على مقربين متفانين في خدمته وعميقي الإيمان برؤيته الكونَ والحياة. في صلب الجماعة المقربة كان هناك ثلاثة مُريدين، الدرع والحسني والربيش. أخلص هؤلاء للرجل فعاملهم كأنهم أبناؤه. بدافع من زهده، لم يكن فهد العبيد يرضى أن يفخّم بكلمة «الشيخ». في بيت الربيش، كان يذكر اسمه مقروناً ب «عمي»، فيقال «عمي فهد». استخدام المفردات القرابية داخل الجماعة علامة على شدة تماسكها من ناحية، وعلى إحساسها بهوية مميزة لها من ناحية أخرى. قبل أربعين عاماً، فجعت أختي وزوجها بوفاة أكبر ابنيهما. في الثامنة عشرة كان. بزغ شاباً متوافقاً مع إرث إخوان بريدة. خريج نابِهٌ للمدرسة الدينية، التابعة لإخوان بريدة، ووفقاً لرؤيتهم، وشابّ متوقع له مستقبل باهر في المجال الديني. مات جراء تماسّ كهربائي في مسجد كان يؤم الناس فيه. مات شاباً، مشرقاً، وضيئاً، ذيِّع الصيت في ذاك العمر اليانع. لم يبق للأسرة إلا ولد واحد، هو عبدالعزيز. فهد العبيد أحس بفاجعة الأسرة. تعامل مع أهمية الطفل الباقي لرفيقه بحس أبوي. قبل ثلاثين عاماً أصيب عبدالعزيز بمرض ألزمه البقاء في المستشفى شهرين. يقول عبدالعزيز: بعد خروجي من المستشفى أخذني أبي مباشرة لفهد العبيد، حتى قبل الذهاب لبيتنا. بشّ الرجل بالطفل وفرح به ودس في جيبه ألفي ريال، وهو ما يوازي نصف راتب موظف جامعي. ويذكر عبدالعزيز أنه مرة مرض فزارهم فهد العبيد بعيد منتصف الليل لعيادته والقراءة عليه. الرجل الذي لم يكن يركب السيارة جاب الأزقة والدروب الهاجعة في أنصاف الليالي ليعود طفلاً مريضاً. غمامة من الرضى الروحي عمّت البيت بزيارة الزاهد الكبير في هذا الوقت غير العادي. رابطة من الروح العائلية جمعت الزاهد بأخلص مُريديه وأقرب أدواته في الإبقاء على جماعته. هكذا كان عالم الجماعة من داخلها. تنشد الجماعة عبر شبكات من التواصل اللارسمي، ولائمَ، وقهاويَ، وجلسات بيوت للخاصة يتم فيها الذكر والدرس والتفكّر. تلتئم هذه الجلسات حول قهوة وشاي ومعروض (فاكهة تتكون أساسا من البطيخ والشمام). فيما كانت مادتها في فترات أخرى، العشاء. تقام هذه اللقاءات في بيوت بلا شغالات. كانت نساء البيت من يُعدِدن التموين الغذائي لهذه الجلسات التي تضم عشرات الرجال. في بيت عبدالله الربيش انعقدت ولسنوات جلسة الإثنين. بصحة معلولة ولكن بدافع عقائدي قوي هشّت المرأة بالضيوف الأسبوعيّين وتحمست لخدمتهم. كانت تجهز القهاوي وتطبخ أصناف المطبخ النجدي لعشرات الأفراد بشكل أسبوعي ولسنوات. تفعل ذلك بدافع من الانتماء والحب والإيمان. «بخور من الروحانية كان يضوع في بيتنا حين نستضيف جلسة فهد العبيد أو الإخوان.. كنت أشعر بالروحانية تسري في البيت كله. والدايَ كأنهما في عالم ثانٍ حين يكون فهد في بيتنا»، قال لي ابن اختي مرة عن هذه الأجواء. كم كان مثيرا الجمع بين هذا التفاني والصحة المعلولة. عبدالله الربيش، الرجل الذي كان في صلب مصنع الصورة الذهنية عن بريدة مدينة محافظة شديدة التدين، جمعته بزوجته علاقة حب ووفاء عجيبة. أصيبت قبل ما يزيد عن الأربعين عاماً بتليّف الرئة فأجري لها عملية قص للرئة في مستشفى الملك فيصل التخصصي. العملية الخطرة تركت أثرها البيّن. رافقتها العلاجات والمضادات وتكرر المراجعات للرياض ثم لجدة والمكوث أياما وأسابيع. هذا الواقع لم يدفع الرجل للتعدد في مجتمع لم يكن يُدين التعدد. ظل متمسكاً بزوجته حفياً وفياً متفهماً لحاجتها المتكررة للحضور في الرياض ثم جدة من أجل العلاج. توفيت ابنتهما الشابة جراء مرض الذئبة الحمراء، قبل اثنتي عشرة سنة. كانت الأم في جدة للعلاج في المستشفى التخصصي. دفن ابنته في بريدة وهرع سريعا، دون أن يجلس للعزاء، عن طريق البر إلى جدة ليكون بجانب زوجته في هذه الفاجعة. حين توفي في بريدة قبل ستة أشهر، كانت هي في جدة خارجة للتو من العناية المركزة بمستشفى الملك فيصل التخصصي. عن لقائهما الأخير حدثتني باكية فقالت: «ودعني. قبّل رأسي وقال: سأذهب لبريدة أمكث عشرة أيام ثم أرجع. آخذك لمكة كي نعتمر ثم نعود لبريدة». عاد من جدة وتوفي خلال بضعة أيام. برغم أن التعبير عن الحب ليس شائعاً لدى الفئة الاجتماعية التي ينتمي لها الرجل، وجَرى وصفها أعلاه، إلا أن حبه لزوجته كان مدركاً بأسلوب حياته معها. يبدو أن الزهاد لهم رؤية للحياة الزوجية تختلف عن الصورة الذهنية الشائعة للرجل المتدين المتنعم بما يمن الله عليه من يسر وحلال. مات عبدالله الربيش في أغسطس الماضي، ولحقت زوجته به بعد ستة أشهر. للقدر ترتيبات عجيبة. لم يكن دُفن بجانبه أحد حتى وفاتها. دفنت إلى جواره تماماً. مثلما ضَمَّهُما ظاهرُ الأرض، ضمَّهما باطنها في تجاور أزلي. زياد، حفيد الفقيدين (8 سنوات)، علق على هذا التجاور في النومة الأبدية بالقول، إن جَدَّيه يمدان أيديهما لبعض من داخل القبر، يسلمان على بعض، يجلسان، يتناولان القهوة ويتبادلان الحديث. نعم، في بريدة ومن جوهر مصنع صورة التدين والمحافظة تولد أساطير الحب والخلود. بموت عبدالله الربيش وزوجته تسقط ورقة من تاريخ المدينة، وتختفي وحدة من حدات «الخدمات المساندة» التي مثلّت إحدى أدوات استمرار وعنفوان ونجاح الظاهرة التي وسمت المدينة الشهيرة بميسم المحافظة والتدين.