شكَّلت قصص المبدعين، الذين آل بهم الحال إلى الجنون، مادة بحث مثيرة للباحثين، والنقاد، ومنهم شاعرانا المعنيَّان، فقد جمعا بين التمكُّن والانسيابية الشعرية، وانتهت حياتهما في «مصحة المجانين»! وقد أثبتت الدراسات أن مصدر إلهامهم، هو معاناتهم، وعندما تعاظمت، ساقتهم إلى رفض المجتمع، والانطواء، نظراً لعدم قدرتهم على المجابهة؛ فمن ظلم مجتمعاتهم أنها فصلت بين: «إنتاجيتهم» و«شخوصهم» فبجَّلت الأولى، ولفظتهم في الثانية في «عرض المصحات»! فقط لأنهم رقيقو مشاعر، عجزوا عن مواجهة اضطرابات الحياة العادية، فاستسلموا للموت عبر بوابة الجنون، ألم يمت ع/ شكري مؤسس مدرسة أبولو مجنوناً شريداً، والشاعر البشير منبوذاً متهماً؟! وقد أجمع النقاد على أن شاعرنا إدريس/ج، لم تظهر عليه علامات الجنون من عدوانية، وغيرها، فقط كان يطيل السكوت مع أنه يجيب على مَنْ يتحدث معه، والدليل على وعيه صوره المتخيلة، التي يستحيل على غائب العقل أن يرسمها، وقد أكد المحللون أنه يعاني من اضطراب نفسي في مجتمع يعتبر ذلك جنوناً! وربما رضخ شعراؤنا لهذا الشعور حتى يتخلصوا من قسوة الأحكام التي في حقهم؛ فالجنون تصرف غير مدرك لا تطال صاحبه أي مساءلة، لأنه فاقدٌ للأهلية، وهنا الفرق بين المجنون والعبقري، الذي يجني مجتمعه من ورائه إضافة غير عادية! وما أكثر عباقرة السياسة، والفن، والعلم، الذين عانوا من اضطرابات نفسية لم تحجز عقولهم عن الإبداع! حتى نظرة الناس للمعالجة في عيادة نفسية اختلفت، فسابقاً كانوا يخشون أن يتهموا بالجنون، والآن أصبح المشاهير يتباهون بمعالجيهم النفسيين! ومنهم مَنْ كان المرض عارضاً في حياته، وتفاقم لأسباب عدة مثل: محمد الحجي المتفوق دراسياً؛ فما أعذب شعره الذي يحكي آلامه، يقول: أنا المتيم والأحداث شاهدة من الهموم علت وجهي التجاعيد إني غلام ولكن حالتي عجبٌ أُرى كأنيَ في السبعين مولود فقريحته الشعرية جادت بغزارة في المرحلة الثانية من حياته إبان تبلور معاناته وبداية مرضه، في حين قل نتاجه الشعري بعد تمكن مرض الفصام منه. أما جمّاع، فظل ينظم الشعر حتى وهو في المصحة، وهذا يعد إشارة إلى أن مرض الحجي عقلي، أما إدريس فهو اضطراب نفسي لم يمنعه من الإدراك، واستحضار الصور، يقول: أرى خلقهم مثلي وخلقي مثلهم وما قصرت بي همتي وذكائي يسيرون في درب الحياة ضواحكا على حين دمعي ابتل منه ردائي إن نتاج هذين الشاعرين يثبت أن المبدع لا يمكن أن يكون مجنوناً فاقداً عقله، لكنه عبقري، فاق المألوف عن طريق الإلهام المستمد من المعاناة!