كثير من مكونات ثقافتنا الأخلاقية، هي من صُنع وسائل الضبط الاجتماعي غير الرسمي، المتمثلة في سلطة المجتمع، التي كانت من القوة بمكان، إلى درجة أنها في فترة من الفترات كانت بديلاً للقانون والنظام، في كثير من الأحيان! بفعل القوة المطلقة لسلطة المجتمع، كانت السلطات الأخرى تتخذها غطاءً معنويَّاً تؤدي دورها تحت عباءته أحياناً، وأحياناً أخرى توكل إليها كثيراً من المهام، وتعوِّل على قدرتها الخارقة لضبط الأمور، وللحفاظ على السلم الاجتماعي، والتصدي للتغيرات التي لا تتماشى مع توجهاتها! كانت القرارات التي تمرر تحت غطاء سلطة المجتمع تحوز القبول غالباً، حتى أن الممانعين لا يملكون إلا الرضوخ والتسليم إذا ما صادق هَرَما السلطة المجتمعية «شيخ القبيلة وشيخ الدين» أو من يقوم مقامهما، على أي قرار. لاحقاً، انطلاق المجتمع نحو التحوّل الجزئي والمرحلي إلى المؤسساتية، فرض إدخال لاعبين جدد إلى ميدان السلطة، أوكلت لهم مهام كانت من صميم أعمال سلطة المجتمع، فكبر المجتمع، وكبرت المؤسسة/ الدولة، وبفعل هذا التطوّر الطبيعي، والانفتاح على الثقافات الأخرى، تخلخلت تركيبة المجتمع المعنوية، وتفتت القوى السلطوية المطلقة، ما أسهم في تحرر كثيرين منها! هذه التحوّلات كشفت لنا عما يسوؤنا، ولعل أهم ما كشفتْه أن كثيراً من القيم والفضائل التي نفاخر بها – أو ندَّعيها- لم تكن نابعة من منطلق إيمان ذاتي، بقدر ما كانت استجابة قسرية للضغط/ الضبط الاجتماعي! وليس صعباً رصد نتائج هذه التحولات، فجولة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، كفيلة باستجلاء صورة «الشخصية الأخرى» المنفلتة من قمقمها، بمجرد شعورها أنها في مأمن من الرقيب/ السلطة. نحن اليوم ندفع ثمن أخطاء ثقافية كبيرة جعلت كثيراً من القيم والفضائل مجرد ردّة فعل لمسايرة الضغط الاجتماعي والتصالح مع المجتمع، بينما كان يفترض غرسها في أصول التنشئة لتكون فعلاً أصيلاً، وقيمة ثابتة لا تتغيّر تحت أي ظرف. هذا الفراغ الكبير الذي تركه تداعي سلطة المجتمع لا يمكن تعبئته من جديد بذات المكوِّن، لأن الظروف والمعطيات اختلفت! نحن بحاجة إلى مشروع ثقافي كبير يعيد تعريف قيمنا وفضائلنا، ويراجع وسائل غرسها، ويتجه مباشرة نحو الذات الفردية، ليجعلها تحاكم نفسها بنفسها بمسؤولية، ويجعل امتيازها مرتبطاً بقيمتها الأخلاقية أمام نفسها!