في كتابه «قصة الحضارة» يقول «ديورانت»: (الحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق؛ لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها). الاضطراب والقلق من نهاياتهما تبدأ في نفس الإنسان دوافع التطلع وعوامل الإبداع، وطالما بقيا يعيشان في محيط الإنسان أو في ذاته، فلا تطلع ولا إبداع، وأي محاولة ل «اقتراف» أحدهما أو كليهما، ستكون ضرباً من «الجنون»، لأن معطيات ومتطلبات الواقع المضطرب القلِق، ستنكص ب «العقل» إلى المربع الأول للاحتياجات الإنسانية «الأمان». المحيط العربي، بل الشرق الأوسط برمته يعيش حالة قلق واضطراب غير مسبوقة، تزامنت مع انفتاح وتعدد غير مسبوق أيضاً لفضاء ومنابر التعبير، ما كوّن شارعا افتراضيا يفيض يومياً بمخرجات الحالة القلقة المضطربة. فيض الشارع اليومي جرف معه الجميع، بما فيهم النخب والمبدعون، في تماهٍ قسري مع الواقع المحيط، استهلك كل الطاقات، وأغلق كل النوافذ التي كنّا نفتحها على نتاج المبدعين -ثقافة وفناً- لنهرب من ثقل الواقع، ونتنفس عبرها، وننفّس عن ذواتنا! انخرط الجميع في لعبة – لعنة – السياسة، واستسلم المبدع لقوة الشارع الجارفة، وتوهم أنه صار طرفاً في اللعبة ولو برأي في موقع تواصل، فابتلعه في دوامتها! وسط هذا الواقع المحبط، هناك قلة استثنائية من المبدعين ما زالت تؤمن بنفسها ودورها ونتاجها، لكنها فئة أصبحت تؤدي على مسرح بلا جمهور، ومن يحضر «عروضها» من الجماهير ليس تقديراً ولا فرجة، بل يأتي مقرّعاً: (أين نحن وأين أنتم؟!). هذه «التخمة السياسية» تستهلك إنسان الشرق الأوسط الذي ليس بوسعه التأثير فيها، ولا الانفكاك عنها، ما جعل بعضهم يتمنى عصوراً غابرة، كانت مقارفة السياسة فيها من «المحرمات»، فتفرّغ المبدع للتجلّي، وتفرّغت الجماهير للفرجة والمتعة.