قد يبدو التساؤل غريباً بعض الشيء والناس في كل أرجاء العالم تمارس قراءة الصحف كما تشرب قهوة الصباح وكما تركب وسائل المواصلات في طريقها لأعمالها. لكنك ستتعجب إذا علمت أنه قبل 300 سنة تقريباً لم يكن هناك أحد يعرف معنى الصحافة بمفهومها الحالي، لم تكن هناك منصة جرائد لدى محلات البقالة، ولم يكن هناك شخص يسمي نفسه محررا صحفياً أو مصورا صحفيا فضلاً عن أن يكون هناك رئيس تحرير أو ناشر ودار نشر بالمعنى المتعارف عليه اليوم. تاريخ نشأة الصحافة متداخل ومعقد بعض الشيء توزع بين عوامل عدة اجتماعية وثقافية وتجارية لكن العامل الثابت دوماً في كل قصة لصحيفة ناشئة في أي مجتمع حول العالم أن خلفها تياراً شعبياً ورغبة في تغيير واقع قائم وأنها دوماً ما تنتهي بمحاولة تحجيم من السلطة القائمة في البلاد إما عبر القوانين التي تحد من حرية النشر أو عبر الضرائب الباهظة التي تقلص كثيراً من إمكانيات الصحف وتمنع العامة من التفكير في تأسيس صحف جديدة. كانت الصحف دوماً تنتج واقعاً جديداً يحسن من حياة الناس، في بريطانيا كانت التغطية الصحفية الأولى لمعارك جيش الملكة هي التي سلطت الضوء على غياب الرعاية الصحية للجنود الجرحى ونتيجة لتلك التغطيات تم إنشاء أولى الوحدات الصحية الميدانية التي ترافق الجيوش للعناية بالجرحى. وهناك كثير من الأمثلة التي جعلت الصحافة خلال مدة وجيزة في عمر الزمن تملك سلطة قوية تؤثر في المجتمعات وتكشف المستور وتنبش عن الحقائق الغائبة وتؤثر في لعبة الانتخابات والتوازنات السياسية في أي بلد. لكن نعود ونتساءل مرة أخرى، لماذا يقرأ الناس الصحف؟ ربما لأن الصحف كانت في الماضي وسيلة تواصلهم الوحيدة مع أخبار العالم لكن ذلك الأمر سرعان ماتلاشى مع ظهور الإذاعة والتلفاز ورغم ذلك واصلت الصحف ازدهارها. ربما تكمن الإجابة في اعتقاد قديم لدى الناس يرتبط بنشأة مفهوم الصحافة نفسه وهو أن تلك العناوين والمقالات التي تتصدر الصحف كل صباح هي صوتهم، هي سلاحهم في التعبير ضد القوى المجتمعية الأكبر، يبحث القارئ لاشعورياً في صحيفته عن صوت يمثله، عن كاتب يصغي إليه ويقول له أنا معك وأكتب معاناتك، يبحث كذلك عن شخص يثق به يستطيع أن يجمع له الأفكار المتاقضة والأخبار المتشعبة في مقال سلس يخبره بخلاصة ذلك كله، يطلعه في عبارات وسطور مختصرة على المغزى الذي لا تقوله نشرات الأخبار وتغريدات تويتر وفيديوهات «فيسبوك» التي تربكه وتشتته أكثر مما توضح له الحقيقة الغائبة. هناك عمود خفي تنبني عليه ثقة الناس في صحفهم هو المصداقية، المصداقية التي تجعلهم يعتقدون أنها تنورهم وتخبرهم الحقيقة وتنحاز لصفهم ضد الآخرين، المصداقية التي تجعلهم يشعرون بالأمان لتلك الورقات التي يشترونها بقوت عيالهم. ومتى ما انحازت الصحيفة لغير القارئ الضعيف الذي يدفع ثمنها تكون قد فقدت تلك المصداقية، ساعتها سيكون موتها القريب مسألة وقت مهما حاولت أن تتظاهر بعكس ذلك، وسيتوقف الناس سواء فجأة أو بالتدريج عن الوقوف أمام منصة الصحف عند محلات البقالة وسيعبرونها سريعاً كأنها لم تكن هناك في يوم من الأيام!