من المهم التمييز بين كلمتَي السياسة والسياسي، إذ إن الخلط بينهما يشوِّش الرؤية، فالفظ سياسي يشير إلى الكائن الإنساني بوصفه كائناً اجتماعياً، أو مدنياً، بالطبع حسب أرسطو، وابن خلدون، أي بمعنى الحياة المشتركة للناس في المجتمع، أو ما يعرف بالشأن العام، بينما تشير كلمة السياسة إلى عملية إدارة الشأن العام بوصفها علاقات قوة، وبهذا يمكن لنا فهم عبارة روجيس دوبريه، في كتاب «نقد العقل السياسي»: «طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي. إنها تخفيه، ليس بمعنى أن يخفي القطار قطاراً آخر، بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكك التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة، وشرعات كثيرة، ولكن هنا سكة حديد واحدة، أو سكة صليب». نفهم من ذلك أن الوجود السياسي للناس في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية، مثله مثل بنية القرابة، وبهذا «ظلت السياسة أشبه بالزمن الذي لا يمر»، وكل لحظة من لحظات التاريخ السياسي للمجتمعات تمثل الدرجة الصفر؛ وكل جيل يمسك بالخيط من أوله، ويردد في الوقت ذاته أنه يبتدع هيستيريات تحقيق الذات، والهلوسات الجماعية، والفصامات الطائفية، والهذيانات الدفاعية، والأخرى التفسيرية… وكما أن المراهق يتعلم المضاجعة دون أن يعلِّمه إياها أحد، ولكن دون أن يمارسها «خيراً» مما مارسها جدوده، فإن كل حقبة اجتماعية تعاود اختراع السياسة، وكأنها لم تكن قط، هي هي سياسة كل زمن، الإشكالية بصورة جوهرية. ويرى دوبريه أن هذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة، وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها، بنية التكرار. وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي. ومصطلح السياسة مازال محاطاً باللبس والغموض، إذ لا يوجد اتفاق بين الدارسين بشأن تعريف الكلمة، فبعضهم يعرِّفها ب «تسويس الأمر»، أو ب «فن الحكم»، أو «فن الممكن»، أو «تدبير الشأن العام»، وبعضهم يعرِّفها ب «الخلافة، أو السلطان، أو الوازع، أو تدبير الملك»، حسب ابن خلدون، وآخر يعرفها ب «العقد المدني، أو الإرادة العامة»، أو «طريقة الوصول إلى السلطة واحتكار القوة»، أو «علاقات القوة والهيمنة»، حسب ميشيل فوكو… في الواقع إن استعمالات مصطلح «سياسة» تختلف باختلافات السياقات التي تستعمل فيها، وإذا ما كان علينا صياغة تعريف إجرائي لمعنى السياسة فيمكننا القول: إنها تلك المؤسسة الجامعة «مؤسسة المؤسسات»، الدولة التي تحتكر حق استخدام القوة، وتضطلع بتنظيم شؤون مواطنيها بوصفهم جمهوراً، أو شعباً متجانساً، يتمتع جميع أفراده بأهلية، وقيمة اعتبارية متساوية في الحقوق الأصلية، وحماية بعضهم من بعض، وتأمين حياتهم، وصون سيادتهم بما يحقق استقراره ونماءه وازدهاره. هذا المعنى للسياسة بوصفها قوة الحق القائم على أساس العقد الاجتماعي بين المواطنين بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، يختلف عن معنى السياسة بوصفها ممارسة لعبة الوصول إلى السلطة، وفقاً لقاعدة نقولا ميكافللي، «الغاية تبرر الوسيلة»، أو حق القوة المباح في لعبة تنافس، وصراع القوى والمصالح السياسية بين مصالح الشرائح الاجتماعية المختلفة.