تثير قضية الثقافة -بصفة عامة- في البلاد العربية، والثقافة السياسية على وجه الخصوص، الكثير من التساؤلات والإشكاليات... النابعة من طبيعة التكوين المجتمعي والسياسي والحضاري للعالم العربي. وهذه الإشكاليات تبدأ من تعريف “الثقافة” و“المثقف”... وتمتد لتشمل كل ما يتعلق بالشأن الثقافي من أمور متعددة ومتشعبة. وغنى عن القول هنا، وفي بداية حديثنا المختصر هذا عن “الثقافة السياسية”، ان كثيرا من “الإشكاليات” التي أشرنا إليها تتضمن في كثير من إرجاء الوطن العربي مآس - ومهازل- لا حصر لها... تكون في الغالب نتيجة وسببًا لمزيد من التخلف العربي، ومزيدًا من الضعف والهوان العربي - مقارنة بالأمم الأخرى الناهضة. وفي عجالة كهذه، نجد أن الوصول إلى تعريف (تقريبي) ل “الثقافة السياسية “، ننطلق منه للحديث عن بعض أبعاد هذه الثقافة، وأوضاعها، وما ينبغي أن تكون عليه، ربما يتطلب أن نبدأ بتعريف كل من المصطلحين “الثقافة” و“السياسة”... وسنفعل ذلك بإيجاز فيما يلي. يعرف العالم الانثروبولوجي البريطاني “ادوارد تيلر” الثقافة بأنها: “ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون، وكل القدرات والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع”. ويعرفها الكاتب العربي الدكتور سعيد عبد الواحد بأنها: “منظومة من القواعد السلوكية التي تنتقل من جيل إلى جيل آخر، عبر التلقين والاكتساب والتعليم وليس بواسطة الجينات الوراثية. وتتباين الثقافات الإنسانية إلى حد الاختلاف فيما بينها، بسبب عوامل إقليمية وجغرافية ودينية”. و“الثقافة” (Culture) إذا، يمكن أن تعرف على أنها: مجموع القيم والمعتقدات والعادات (السلوكيات) التي يكتسبها الإنسان من البيئة المحيطة به، نتيجة لعيشه في هذه الحياة، وبوصفه عضوا في مجتمعه. وهذه القيم والمعتقدات والآراء والسلوكيات تتعلق بكل مجالات الحياة، وبشتى جوانبها. *** كما يمكن أن نعرف الثقافة بأنها: طبيعة معرفة (وسلوكيات) الإنسان بواقعه الحياتي العام، وبظروف وواقع الحياة في مجتمعه ومنطقته والعالم من حوله، ومدى إلمامه بالبدائل الممكنة والمتاحة... كأطر حياة عامة، وكذلك فهمه للمفاهيم الحياتية الرئيسية، السائدة والممكنة. وأرى أن بالإمكان استخدام مصطلحي “الثقافة” و“الوعي” (awareness) كمترادفين، في صدد الموضوع الذي نتحدث عنه هنا. فالمصطلحان المذكوران يمكن - وبناء على مبررات عدة - اعتبارهما شيئا واحدا. وسأعتبرهما مترادفين - في هذا المقال، على الأقل. ولذلك أعرف “الوعي” بأنه: مدى معرفة الإنسان لواقعه الحياتي العام، وبظروف وواقع الحياة في مجتمعه ومنطقته والعالم من حوله (مدى معرفة “ما هو كائن”) ومدى إلمامه ب “البدائل” الممكنة والمتاحة... كأطر حياة عامة (ما يجب أن يكون) ومدى فهمه للمفاهيم والمصطلحات الحياتية الرئيسة، السائدة والممكنة. ويلاحظ هنا أننا طبقنا ذات تعريف “الثقافة” على تعريفنا ل “الوعي” مع إجراء تغييرات لفظية طفيفة على ذلك التعريف الخاص بالثقافة. كما أننا بدأنا تعريف “الوعي” بكلمة “مدى”.... وهي لفظة ضرورية، لأن “ درجة” الوعي تتفاوت من شخص لآخر، ومن وقت لآخر. واعتبارا من هذه النقطة، ونهاية هذا المقال، سنستخدم مصطلح “الوعي” باعتباره مرادفا لمصطلح “الثقافة”. ونتحول الآن لتلخيص معنى مصطلح “السياسة”. *** ولكي لا نقحم القارئ في تعريفات متشعبة ل “السياسة”، نكتفي هنا ببعض التعريفات الموجزة. ف“السياسة” هي: “السلطة السياسية” أو سلوكيات الحكومات، وكل ما يتعلق بهذه السلوكيات من أمور وقضايا. و“السياسة” هي: الإدارة العليا للدولة - أي دولة - وكل ما يتعلق بهذه الإدارة من شؤون. و“السياسة” هي: الأهداف التي تسعى الحكومات لتحقيقها، داخل وخارج حدودها، و“الوسائل” التي تتبعها لتحقيق تلك الأهداف. *** إن أهمية “الثقافة” بالنسبة لشعوب العالم لا تخفي على أحد. حتى انه يمكن القول إنه: كلما اتسعت وتهذبت، وارتقت ثقافة أي شعب، كلما كان أقدر على تحقيق أهدافه وطموحاته، ونيل مقاصده ومراميه، واحتلال مكانة أرقى بين شعوب العالم وأممه. والعكس صحيح. هذه “الحقيقة” تعتبر من بديهيات العصر. - أهمية السياسة: ونظرا لما يحيط “أهمية” السياسة من غموض، وسوء فهم، في كثير من بلادنا العربية، ربما يكون من المناسب أن نتوسع - قليلا- في تلخيص أهمية “السياسة”. معروف منذ أقدم العصور، أن إدارة المجتمع (سياسته) تعتبر أهم عامل في تحديد مدى قوة ذلك المجتمع. فتلك “الإدارة” يمكن أن تعمل (إيجابا) لرقى ذلك المجتمع وتطوره، ويمكن أن تعمل (سلبا) بما يؤدي إلى تخلفه أو انهياره.... ولقد استقر رأي كثير من علماء السياسة والعلاقات الدولية خاصة، على أن مدى “قوة” أي دولة يتحدد بالعناصر الستة التالية:- (أ)- البيئة والموقع الجغرافي. (ب)- كم ونوع السكان. (ج)- الموارد الطبيعية (الاقتصادية). (د) - الإمكانات التقنية والصناعية للبلد (ه)- القيادة السياسية (السياسة)، (و) - القدرات العسكرية. وكلما توفر كل من هذه العناصر بشكل إيجابي، كلما ساهم ذلك (إيجابا) في تقوية الدولة، والعكس صحيح... وضمن عناصر القوة (على كل المستويات) تظهر القيادة السياسية (السياسة) كأبرز هذه العناصر. فالسياسة هي “محصلة” لكل مجالات وجوانب الحياة. وهذا ما يجعل “السياسة” (Politics) أهم ظاهرة (إنسانية-اجتماعية) في حياة الإنسان العامة. بل هي أهم عناصر القوة - إيجابا وسلبا. فالمجالان الاجتماعي والاقتصادي، وفروعهما الكثيرة، يظلان من أهم محددات سلوك المجتمع... أي مجتمع، وتحديد مكانته ووضعه، ضمن المجتمعات الأخرى. ولكن مجال “السياسة” يظل الأهم... بسبب أن السياسة تعني إدارة نشاطات وفعاليات المجالين الاقتصادي والاجتماعي... وتلك الإدارة يمكن أن تقود المجتمع إلى القوة والرفعة... أو إلى الضعف والتخلف... وهناك العديد جدًا من الأمثلة اليومية التي تؤيد هذا الاستنتاج... لعل من أقربها إلينا وأبرزها الآن: دولة الصومال الشقيقة... إن السبب الأساسي لانهيار الصومال، هو انهيار سياسته، أو نظامه السياسي، على وجه الخصوص، ذلك النظام الذي كان قاصرًا ومهترءًا ومرفوضا. صحيح، ان أسباب الانهيار الصومالي الحالي كثيرة.... ولكن كل الأسباب انصبت في المجال السياسي وتجسدت فيه.... بحيث أصبحت قضية إصلاح الوضع (أو تخريبه أكثر) هي قضية سياسية، في الدرجة الأولى. لذلك، يمكن أن نقول: “فتش عن السياسة”... عندما نكون بصدد تقييم مدى قوة أي دولة، أو تحليل وضعها الاقتصادي والاجتماعي العام. فالوضع الذي تكون عليه أي دولة، يمكن رد سببه الأساسي إلى سياستها أولًا... *** وهناك ما يعرف ب “التنمية”.... التي تعني ضمن ما تعني غالبًا محاولات الرقي (الإيجابي) بمستوى مجتمع أو شعب ما، ليكون في مستوى من القوة يضارع أو يشابه أمثاله من الشعوب الأخرى المعاصرة له، والمتطورة عنه. ولقد استقر رأي كثير من العلماء، على أن لهذه “التنمية” أبعادًا أربعة. فهناك تنمية اقتصادية، وأخرى اجتماعية، وتنمية سياسية، وأخرى أمنية. تلك هي المجالات الرئيسة الأربعة للحياة العامة. ولا بد عند الشروع في “التنمية” من العمل في كل هذه المجالات الأربعة (المترابطة) مجتمعة. إذ لا بد وأن يكون هناك توازن فيما بينها، فلا يطغى الاهتمام بمجال منها على المجالات الأخرى. فالتنمية الاقتصادية (مثلًا) لا بد وأن يصاحبها تنمية اجتماعية وسياسية وأمنية ملائمة، وإلا اختل التوازن.... وتعثرت التنمية ونقصت. وفي أكثر الحالات، لا يمكن الشروع في التنمية الاقتصادية المتكاملة والتنمية الاجتماعية الشاملة، دون أن يلازم ذلك تنمية سياسية ملائمة على اعتبار أن بالإمكان إدراج مجال “الأمن” ضمن مجال السياسة. *** الوعي السياسي: وبناء على تعريف كل من “الوعي” / الثقافة و“السياسة” السالفي الذكر، يمكن أن نعرف “الوعي السياسي” كالتالي:- مدى معرفة الإنسان بواقعه السياسي العام، وبظروف وواقع مجتمعه ومنطقته والعالم من حوله (مدى معرفة “ما هو كائن”) ومدى إلمامه ب “البدائل السياسية” الممكنة والمتاحة... كأطر حياة عامة، وكحلول لما يعتري المجتمع من مشكلات سياسية (مدى معرفة “ما ينبغي أن يكون”) ومدى فهمه للمفاهيم والمصطلحات السياسية الرئيسة، السائدة والممكنة. وبذلك، نكون قد طبقنا التعريف العام ل “الوعي” العام للإنسان على المجال السياسي وحده هنا. ومن هذا التعريف، يمكن أن نقول ان أهم “عناصر” الوعي السياسي لأي إنسان هي:- (1) معرفة بالواقع السياسي العام لمجتمعه والعالم من حوله، والمقصود معرفة حقيقية لظروف وطبيعة ذلك الواقع. (معرفة “ما هو كائن”). (2) إلمام الشخص ب “البدائل” السياسية الممكنة والمتاحة، كأطر مجتمعية، وكحلول لما يعتري المجتمع المعني من مشكلات سياسية... ينجم عنها مشكلات مختلفة (معرفة منطقية ل “ما يجب أن يكون”). (3) فهم معقول للمفاهيم والمصطلحات والتيارات السياسية الرئيسية السائدة والممكنة. *** ومن ذلك، نرى اختلاف “الثقافة السياسية” (الوعي السياسي) عن “علم السياسة”، الذي يعرف بأنه: الدراسة العلمية (المنهجية) للسلطة السياسية، أو لسلوك الحكومات وما يتعلق بهذا السلوك من أمور. وعندما نتناول هذا الموضوع من زاوية مختلفة قليلًا، هي زاوية ما يسمى ب “المعرفة السياسية” نجد أن هذه المعرفة تعني: ما يكتسبه الإنسان من معرفة ودراية تتعلق بالسلطة السياسية. وقد نتج عن التفكير في السلطة السياسية ما يمكن تسميته ب “المعرفة السياسية” التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع هي:- 1 المعرفة السياسية البديهية: وهي ما يكتسبه الإنسان (عبر حواسه الطبيعية) نتيجة لعيشه في هذه الحياة... من معرفة تتعلق بالسياسة. وهي أبسط أنواع المعرفة (الثقافة) السياسية، وأكثرها انتشارًا. وهي موجودة لدى كل إنسان عاقل وراشد تقريبًا. فالسياسة هي من أول الاهتمامات الإنسانية... وهي محور اهتمام الناس - حتى وان أنكروا ذلك. وتتضمن هذه المعرفة البديهية: الاطلاع على الواقع السياسي المعنى على علاته. 2 المعرفة السياسية الفلسفية: وهي انطباع الإنسان عن أمور سياسية، ومحاولته صياغة وتحديد ما يجب أن تكون عليه (في رأيه) كل أو بعض تلك الأمور. 3 المعرفة العلمية السياسية: وهي أرقى أنواع المعرفة السياسية. وتتمثل في “الاستنتاجات” التي تم إثبات صحتها بالتجريب، من قبل المجهود الذهني الإنساني الممنهج. وهذه المعرفة هي لب العلوم السياسية، ومكونها الأساسي. *** إن “الثقافة” (الوعي) السياسية لدى أي إنسان راشد عاقل، غير متخصص في دراسة العلوم السياسية، تنحصر في المعرفتين البديهية والفلسفية مع وجود التفاوت الطبيعي في مستوى هذه المعرفة من شخص لآخر، ومن وقت لآخر. أما المعرفة السياسية العلمية، فيملكها المتخصص في دراسة العلوم السياسية، دراسة منهجية علمية. فالأخير، بالإضافة لامتلاكه لقدر من المعرفتين البديهية والفلسفية (باعتباره كائنا اجتماعيا سياسيا) يمتلك قدرًا من علم السياسة. وبذلك، يمكن أن نقول: بأن قياس مدى “الوعي السياسي” لدى أي فئة من الناس الرشد العقلاء، يعني قياس: مدى امتلاك هؤلاء للمعرفة البديهية والفلسفية السياسية. أما عالم السياسة، فيفترض أن درجة وعيه السياسي تكون فوق مستوى درجة وعي الإنسان العادي في المجال السياسي وبكثير. ولذا، فانه عند محاولة قياس مدى وعي فئة معينة من الناس في المجال السياسي، لا بد أن يستبعد علماء السياسة من تلك الفئة. ونكمل هذا الحديث في المقال القادم - بإذن الله. * كاتب سياسي وأكاديمي