اليوم الذي ليس فيه موسيقى يوم عقيم. هكذا أدمنت صوت فيروز كل صباح، أفتتح به يومي راجياً يوماً جديداً تسوده نكهة ومذاق فيروزي. بهذا المعنى، كل يوم هو يوم أنثوي، أما أن يبدأ اليوم بفيروز كالعادة وينتهي بنص فريد من نوعه، نص أنثوي ساخط، فسيكون – بالتأكيد – اليوم الأنثوي الأشد إفراطاً ونزقاً وفرادة. ماذا يعني تأنيث اليوم؟ نسيان الذات الجنوسية للحظة وخوض تجربة فريدة من نوعها هي محاولة التوغل في أعماق ذاتٍ أخرى، ذلك هو معنى أن تقضي يوماً كاملاً في ضيافة الذات الأنثوية بكل همومها وهواجسها واغترابها. الأنوثة متعددة والزمن كذلك. وهذا اليوم الأنثوي لا يقاس بالدقائق واللحظات الآلية للزمن الموضوعي، وإنما بلحظات التقمص، إنه الزمن الأسطوري الذي يقتضيه صمت الذات وانسحابها والإصغاء للآخر، تماماً كما يصغي أحدنا لفيروز كل صباح. اليوم الأنثوي ليس وردياً تماماً كما كنت أتخيل: البداية الدافئة لفيروز شوشتها البرودة الصقيعية التي ترتجف بين جدرانها الرمزية السوداء خيانات أنثوية للجدة «إيزس» القادرة وحدها على استعادة «ايزيريس» الإله الممزق. صوت فيروز الآسر رومانسية خادعة ومضللة، فليس صدفة أن أقع ضحية حوار «واتسابي» فاتر بعض الشيء لكنه مستفز بمضامين أنثوية مغتربة ومستلبة كتلك التي نجدها في كل علاقة «سادومازوشية». لشدّ ما بهت حينما وجدت في هذا الحوار الواتسابي كيف تنسحب الضحية أمام خصمها، كيف تقر الذات لخصمها بالتفوق والغلبة، كيف يكون للهزيمة «الأنثوية» مذاقاً لذيذاً بحيث تستعير الذات خطاب نقيضها، وذلك بكل طيبة خاطر!. لكنه مع ذلك، كان يوماً متخماً بدهشات مباغتة، يوماً جديراً ببداية فيروزية ونهاية مربكة بنصوص الشاعرة السوريالية «جويس منصور».. ولكم أن تتخيلوا. جويس منصور شاعرة متمردة على كل شيء، تكتب قصائدها على شكل صرخة مدوية مشحونة باشتهاءات فريدة من نوعها. لقصائدها مفاعيل الضجيج الصاخب الذي من شأنه أن يوقظ الموت نفسه، كما علق ناقد بطرافة. للقصيدة صوت يختلف عن كل صوت، إنه صوت أنثوي لأنه صوت تدميري يعيدنا إلى ذلك الأصل المنسي حيث للطبيعة جموحها وتلونها ونزقها، وحيث تتمزق مع كل انخطاف ونشوة كل الأسوار والكلمات والصور المحنطة، كما تتحطم أيضاً كل ضروب النسوية المكتملة. تغادر قلاعها إلى «ما بعدها»، حيث ذلك الأفق الرحب الذي تتشابك فيه الذات مع ضدها الأنوثة مع الذكورة.. تمتزجان إلى الحد الذي تقول فيه الأنثى العاشقة لنفسها: «أنا الرجل الذي يطلق الانفعال لكي يحيا». لكنها – وفي قلب هذا المزج – تقلب المعادلة. إن جويس منصور وفية لذاتها الأنثوية، وفية حد النرجسية، وحد تحطيم كل المرايا. لا تكشف القصيدة المؤنثة نفسها بشفافية إلا حين تغرق أكثر مستبطنة ذاتها نحو أعماق لا تجليها سوى القصيدة، هكذا وبملء الفم تقول لنا جويس منصور: «رذائل الرجال مرتعي، جراحهم قطع حلوتي اللذيذة، أحب مضغ أفكارهم الدنيئة، لأن بشاعتهم مكمن جمالي». في أجواء ومناخات كهذه، مناخات تعبق بالأيروتيك الأنثوي كتبت رسالة لكاتبة لا أعرفها: أحببت نصك كثيراً، أحببت لغته الغاضبة وكلماته المتمردة الأكثر إنسانية وأناقة من كل الرداءات السمينة لأشباه الحقوقيات والكاتبات، فتحت ضربات كلماتك الموجعة تتساقط كل تفاهة نسوية متبجحة. الأنوثة معك شيء آخر، كأنثولجيا جويس منصور، المتمردة شعراً وفعلاً، لا تزدهر هنا القصائد وحسب، ولكن أيضاً يزدهر الفعل، حتى أنها تستطيع ركل الرجال، كما فعلت ذات يوم مع ديك ورقي جبان. نحن بحاجة إلى أنوثة تتمرد، تتمرد حتى ضد نفسها، لتفتتح ذلك الفضاء الإنساني الفسيح، فضاء تليق به اللغة الهادرة والكاسرة لسطوة النسق التي تصيح فينا جميعاً: بأي حق أقبر نفسي؟ ألكي تحمي ذاتك أيها السيد.. سأخلعك، ثم.. «… فيك». نحتاج لأنثى من هذا الطراز، وأنا اليوم وجدتها من خلال نصك الرشيق والمتطاير شرراً في الآن نفسه. كما وجدتها أيضاً تتكشف عند خاتمة يوم أنثوي ليس كبقية الأيام، وتحديداً في «الساعة الخامسة» وجدتها في قصيدة لاذعة لجويس منصور: «أيتها التفاهة، لماذا يتنزه الطهرانيون بنقود قذرة على أطراف ألسنتهم؟ المزغبة المدببة الملفوفة بمهارة تحت القبقاب الصغير للقربان «.. أما الطريق إلى جويس منصور وصديقتي الساخطة فليس معبداً للتافهين.