كان «شهار» فيما سبق ضاحية جميلة وواديا زراعيا مشهورا، تغنى به الشعراء قديما وحديثا، ثم أصبح أحد أكبر و أرقى أحياء الطائف المأنوس. قصدنا شهارا والدجى جدُّ حالك ** فأشرق فيه النور من صُبح «مالكِ» لكن شهاراً اشتهر في العقود الأخيرة بسبب (مستشفى شهار) أقدم مستشفيات الصحة النفسية في المملكة، الذي تم افتتاحه في أوائل الثمانينيات الهجرية. وقبل أن يقام المستشفى في موقعه الحالي، كان قد تنقل بين عدد من أحياء الطائف القديمة بمسمى (المارستان) وفي رواية (المورستان)، وهي كلمة فارسية الأصل تعني المصحة أو المستشفى. حين اُفتتح شهار عام 1383ه، كان تحت مسمى مستشفى شهار للأمراض (العقلية)، ثم أضيفت (العصبية) حتى استقر الحال إلى مستشفى الصحة النفسية. محلياً كان يطلق عليه مستشفى (المجانين). فلم يكن في قاموسنا المحلي ولا وعينا الجمعي حينها مفهوم الأمراض النفسية. فأنت إما عاقل أو مجنون!! تلك الأيام ونحن على مقاعد الدراسة، كنا نقرأ عن الأزمات التي تعاني منها المجتمعات غير المسلمة، وعن التفكك الأسري في الغرب، وكيف أن العقوق وصل بالأولاد لأن يدخلوا والديهم – إذا بلغوا من الكبر عتيا- دارا للعجزة! لم نكن نتصور ذلك فقد كان مجتمعنا مؤمناً متماسكاً، ولم نكن نعي معنى الأزمات النفسية. فالذين يعانون من هذه الأزمات يطلق عليهم (المجانين) وعددهم قليل ومكانهم مستشفى شهار. ولشهار المستشفى قصة يجب أن توثق، كانت له أمسياته وندواته وحفلاته، كما أن ردهاته وعنابره شهدت قصصا مضحكة وأخرى محزنة، فكم من العقلاء دخلوه وكم من المبدعين نزلوه وكم من المحبطين قصدوه. ورغم انتشار مستشفيات ومراكز الصحة النفسية الآن، إذ لاتكاد تخلو مدينة في المملكة من أحدها، إلا أن مستشفى شهار مازال الأشهر على الإطلاق بين هذه المستشفيات. مع الطفرة الأولى في منتصف التسعينيات الهجرية حدث تحول اجتماعي كبير، وأظن أن الطفرة وإفرازاتها لم تعط حقها من الدراسة، فقد كانت أحد أهم المنعطفات في تاريخنا الحديث. فانتقال الناس من الحياة السهلة اليسيرة إلى الحياة المترفة المعقدة، فجأة دون تدرج بدّل حياتهم تبديلا، وأحدث خللاً اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً مازلنا نعاني منه حتى اليوم. أكتب هذا وأنا أطالع ما تبثه وسائل إعلامنا من الأخبار المفزعة والقصص المرعبة عن العنف الأسري، والتحرش الجنسي، وجرائم الابتزاز، وهروب الفتيات، والاعتداء على المحارم، والتعدي على الوالدين. فهذا أب يعتدي جنسيا على ابنته، وذاك ابن يحرق والدته، وأولئك شباب يتحرشون بفتاة، ومبتزون من الجنسين أصبح لهم وحدة لمكافحة جرائم الابتزاز تابعة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أمراض وكوارث اجتماعية لم نكن نصدق أن تحصل في مجتمعنا. فما الذي حل بنا؟ وما الذي تغير فينا؟ وأين أثر التربية والتعليم والوعظ والتدين، ودون هذا كله كيف يمكن أن يُتصور وضعنا الاجتماعي. ولولا رجاء يجمع الأرض بالسما ** لكان سلوك المرء وحشا وشيطانا أعلم أن المعنيين سواء أكانوا أشخاصاً أم مؤسسات، سيردون بأن كل هذه الجرائم والحالات والعنف لم تصل لحد الظاهرة، وأنها حالات فردية وأقول: هل نريدها أن تصل لتكون ظاهرة؟ هل درسنا الأسباب؟ هل عرفنا المسببات؟ ثم أين هي الأنظمة والتشريعات الرادعة؟ وهل لدينا نسب عن حالات الاكتئاب والقلق والأمراض النفسية؟ وأين هي البرامج التوعوية والوقائية؟ أم إن الصورة النمطية لشهار والمجانين مازالت حاضرة. فحتى من يشعر بالضغوط والاكتئاب لا يجرؤ على الحديث! فماذا نحن فاعلون؟ النائبات عديدة وأشدها ** ما كان من صنع الخيال الأسود.