للسياسة دهاتها، وللديبلوماسية صناعها، وللدول رجالاتها. منصب وزير الخارجية هو واجهة البلاد ونافذتها على العالم، ولسانها في المحافل الدولية. شهرة بعض وزراء الخارجية تعدت شهرة رؤساء دول، خلال عهد الملك فيصل كان أكثر الوزراء السعوديين حضوراً في وسائل الإعلام وزير الدولة للشؤون الخارجية عمر السقاف ووزير البترول أحمد زكي يماني. رغم ذلك كان السقاف متحفظاً في حضوره الإعلامي وتصريحاته. يماني كان العنوان الأبرز في الصحافة العالمية خاصة أثناء قرار حظر تصدير النفط عام 1973م، زادت شهرة اليماني بعد حادثة خطفه على يد الإرهابي كارلوس عام 1975م. قبل ذلك بدأ اسم وكيل وزارة البترول سعود الفيصل يبرز مشاركا في الوفود والاجتماعات، منها حضوره ضمن وفد المملكة لقمة الجزائر عام 1973م. تولى الملك فيصل وزارة الخارجية منذ تأسيسها عام 1930م، واحتفظ بهذا المنصب طوال حياته باستثناء الفترة التي عين فيها الملك سعود، إبراهيم السويل وزيراً للخارجية عام 1960م. سمعت من السفير أحمد المبارك أنه زار الوزير السويل فوجده جالساً على كرسي جانبي يراجع المعاملات فسأله: لماذا لا تجلس على مكتب الوزير؟ فرد: «سيعود صاحبه». عمر السقاف الوكيل الدائم لوزارة الخارجية عين وزير دولة للشؤون الخارجية عام 1968م إلى أن توفي بنيويورك عام 1974م بنوبة قلبية. استشهد الملك فيصل يوم 25 مارس1975م. أصدر الملك خالد يوم 29 مارس عدة أوامر ملكية أحدها برقم أ/53 بتعيين الأمير فهد بن عبد العزيز نائباً أول لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للداخلية والأمير عبدالله بن عبدالعزيز رئيس الحرس الوطني نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء، وآخر برقم أ/54 بتعيين الأمير نايف (نائب وزير الداخلية) وزير دولة للشؤون الداخلية وعضوا في مجلس الوزراء، والثالث برقم أ/55 بتعيين الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشؤون الخارجية وعضوا في مجلس الوزراء. أدى الأمراء عبدالله ونايف وسعود القسم أمام الملك خالد بديوان المعذر صباح يوم 30 مارس 1975م. منذ ذلك التاريخ بدأ مشوار سعود الفيصل مع الخارجية. لفت نظري أن موقع وزارة الخارجية -الذي نقلت عنه معظم وكالات الأنباء سيرة الأمير- لم يشر إلى تعيينه وزير دولة للشؤون الخارجية لحوالي 6 أشهر حتى أصبح وزيراً للخارجية في التشكيل الوزاري الذي تم يوم 13 اكتوبر 1975م. خلال الأربعين عاماً كان سعود الفيصل وزارة لا وزيراً، وبعثة لا مبعوثاً، ووفداً لا موفداً. كان دولة في رجل، دهاء وحكمة، تمكناً وقدرة، اعتداداً وثقة، ذكاء وفطنة، ثقافة ومعرفة، براعة وحنكة، صبراً وتؤدة، أدباً ورجولة. إذا تحدث أسمع، وإذا فاوض أقنع، يعمل بصمت، لكل كلمة مغزى ولكل حركة رسالة، يعي ويعني ما يقول. يُعامل معاملة رؤساء الدول، يؤخذ كلامه في الأوساط السياسية والأروقة الديبلوماسية على محمل الجد. مصداقيته أكسبته ثقة العالم. كان حاد الذكاء مع أدب جم، عفيف اليد واللسان، لديه القدرة على قراءة من أمامه ومعرفة ما يريد. لا يستعجل النتائج، يناقش ويستمع إلى آراء فريقه، يستشير أصحاب الاختصاص، لا ينفرد برأي، ومع ذلك يدقق ويراجع مسودات التقارير التي يقدمها له المختصون من اقتصاديين وقانونيين وغيرهم ويستدرك عليهم ويعدل لهم. قدراته اللغوية ومهاراته الاتصالية، دقة معلوماته ومصداقيته، جعلت مراسلي وكالات الأنباء العالمية يسعون للقاءاته ومؤتمراته. رغم هيبته يحيط من حوله بجو من الألفة. روى لي أحد المسؤولين: «استدعاني الأمير سعود ليعرض علي العمل معه، كان أول لقاء وكنت متوترا بعض الشيء. كسر الأمير الحاجز وخاطبني (بالإنجليزية): مؤهلاتك ممتازة لولا أنك قصير القامة. رددت: لست قصيراً بل طولك الفارع جعلني أبدو هكذا، فتبسم ضاحكا من قولي». كان يقضي أكثر وقته خارج مكتبه، يرأس الوفود ويمثل المملكة ويلتقي قادة الدول. في الداخل كان مشاركاً ورئيساً لعدد من اللجان والمجالس. مرت المنطقة والعالم بحروب وقلاقل وحوادث، سقطت دول، انهارت أنظمة وتغيرت تحالفات، من الحرب اللبنانية إلى الثورة الإيرانية فالحرب العراقية الإيرانية والغزو السوفييتي لأفغانستان إلى انهيار المعسكر الشرقي وغزو صدام للكويت إلى البوسنة والهرسك فحادثة 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب وغزو العراق ثم الربيع العربي. مروراً بملفات مجلس التعاون واليمن والجامعة العربية والقضية الفلسطينية. دوره لا ينسى في اتفاق الطائف بخصوص لبنان، وفي إنهاء الحرب العراقية الإيرانية وتنقله بين طهران وبغداد فيما يعرف بالديبلوماسية المكوكية (Shuttle Diplomacy)، وفي حشد التحالف ضد صدام بعد غزو الكويت، وفي جهوده لمحاولة إحلال السلام في الشرق الأوسط وشرح مبادرة السلام التي أطلقها الملك عبدالله. وجهده الديبلوماسي -غير الملحوظ – لتجنيب المملكة كثيرا من الأزمات منها تداعيات11سبتمبر. رغم اعتلال صحته إلا أنه استمر مدافعا ومنافحا عن قضايا وطنه وأمته في كل محفل، متحاملا على آلامه، متألما لما آلت إليه أوضاع المنطقة، محبطا من عدم إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. كان غيابه حضوراً، حضر العالم مؤبناً ومعزياً، بكاه أحبابه، نعاه أصدقاؤه، وصمت أعداؤه. في عزائه رأيت قادة ورؤساء حكومات وبرلمانات، أمراء وعلماء، وزراء وسفراء، مسؤولين ومواطنين يمثلون كافة الشرائح، فما الذي أتى بكل أولئك؟ أثناء العزاء جلس بجانبي شاب فسألته: ماذا يعني كل هذا؟ رد علي: «نحن نرى في سعود الفيصل رمزاً للتضحية والدفاع عن الوطن والأمة. لا نراه إلا في مؤتمر أو لقاء أو اجتماع. ننظر إليه كوزير خارجية للعرب يدافع عن قضاياهم رغم آلامه ومعاناته ونشعر بصدقه فيما يقول، لا يتصنع المواقف. نحن كشباب تعجبنا الشخصية القوية التي توحي لنا بالثقة. إنه إنموذج يفتخر به كل سعودي وعربي ومسلم». بوفاته طويت فصول من تاريخنا ودفنت معلومات وأسرار. عدد من المقربين منه أجمعوا أنه لم يكن حريصاً على تدوين مذكراته، فما زلنا حذرين ومتحفظين حول كتابة المذكرات خاصة من هم في مواقع المسؤولية. كتبت في مقال سابق: «تطوى صفحات من تاريخنا وتمحى معلومات من ذاكرتنا الوطنية بوفاة رموزنا السياسية ورجال الدولة وشهود الأحداث. معظم أولئك صناديق سوداء وكتب مغلقة لايمكن فك شفراتها». ثقافة التدوين لدينا لها حساسيتها، لكن هل يمكن أن يُفقد هذا الإرث الوطني الهائل من المعلومات والمواقف المشرفة. تجربة سعود الفيصل يجب أن تروى وتاريخه جزء من تاريخنا الوطني، ومن حق الباحثين والأجيال أن يتعرفوا عليها ويفخروا بها. من لايعرف تاريخه كيف يبني مستقبله؟ أرجو أن يتحول معهد الدراسات الديبلوماسية إلى (أكاديمية سعود الفيصل للدراسات السياسية والديبلوماسية) وأن تتولى جمع إرث الفقيد وتدريس منهجه، كما آمل أن يدون كل من عمل معه عن قرب شيئاً من تلك السيرة، وأطلب من د.نزار مدني ود.سعود وحسان الشواف ود.خالد الجندان ود.حمد الفارس وسلطان الصايغ أن يبدءوا بذلك. رحم الله سعود الفيصل وجزاه خير الجزاء عما قدمه لوطنه وأمته والعزاء لنا جميعاً.