في فترة إجازتي الطبية، أخذت إجازة من كل شيء حتى الكتابة، لكنني لم أحصل على إجازة من القراءة، فهي داء يلازمني منذ الطفولة، بل زدت تعلقاً وتشبثاً بالكتاب، عندما ابتعدت عن عالم الشبكة والإنترنت، وفقد وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يبق معي في المستشفيات سوى الكتاب «القرآن»، وبعض الصحف، وكتب الإهداء التي حملها لي الزائرون، وفي فترة النقاهة مررت بمدينة السحاب «أبها» الحبيبة وهي تعانق الغيمات، وتشدني إلى خاصرة الأيام لتمنحني شيئاً من الماضي القريب الذي عشته بين طرقاتها الترابية فوق جبالها الشاهقة، وهي تحتضن الضباب الذي يداعب وجهي وأرمقه بابتسامة عريضة ذات مغزى، لم أرد أن أفيق منه، حتي وإن غالبني التعب والنعاس إلا أنني حضرت أمسية رائعة لأمراء الشعر «حيدر العبدالله، ومفرح الشقيقي، وحسن الصميلي»، التي أقيمت بناديها الأدبي المميز، النادي المتألق في أنشطته الموسمية، وبرامجه الثقافية التي تساهم في إثراء المشهد الأدبي والثقافي، كانت الأمسية رائعة حد الدهشة، من الصعب أن أكتب عنها، وأعطيها حقها في هذه العجالة. ولحرصي على الكتاب فقد حصلت على مطبوعات النادي الجديدة، وبدأت أبحث عن بعض مفقوداتي القديمة التي أعرف جيداً أنني سأجدها عند من يحتفظ بي وبها، التقيت الزملاء الأحبة أبوملحة والتيهاني وإبراهيم طالع وأحمد عسيري، وكفى، وزهرة آل ظافر، وجمعا كبيرا من الجميلين عشاق الحرف والكلمة، تلقيت هاتف رئيس مجلس الإدارة أحمد آل مريع ليحتفي بي على طريقته، ويعتذر عن غيابه بسبب وجوده في مهمة ثقافية أخرى في الطائف، وحقيقة الأمر أنه كان حاضرا في كل تفاصيل النادي الأدبي، يعرف ذلك كل من يزور معقل الأدب والثقافة في أبها، وعندما عرجت على مكتبة النادي الفخمة ذات الأدوار الثلاثة بترتيبها الجميل وحارسها الأمين «العرباوي»، الذي حملني جميل صنيعه بإيعاز من رئيسه، فقد حصلت على ما جئت أبحث عنه، مرفقا به عدد آخر من المطبوعات الجميلة التي حملها بنفسه، وعندما تصفحت تلك الكتب وجدت من ضمنها مجموعة قصصية بعنوان «حالية اللبن» للكاتبة كفى عسيري، لفتني الاسم الذي أعرفه لإحدى كاتبات الوطن الأم، والوطن الصحيفة. لم أكن ناقدا، ولن أتعاطى النقد الأدبي لأنني مؤمن بالتخصص، فللنقد رجاله وخاصته، لكنني أهتم بقراءة الشباب وبالبواكير في نتاجهم الأدبي بشكل خاص، لذا فقد أثارت فضولي تلك المجموعة القصصية، ووجدتها فرصة لقراءة المشهد الثقافي النسوي العسيري من خلالها، على الرغم من أن الكاتبة حديثة العهد بالكتابة الأدبية حسب معلوماتي، فلم أقرأ لها نصوصاً إبداعية قبل انقطاعي عن المشهد الأدبي، فترة العلاج، إلا أنني وجدت عملاً قصصياً جيداً، وحبكة بارعة، وأسلوبا بديعا اعتمدت فيه الكاتبة على الحكاية، والأسطورة القديمة، ومنحت مساحة كبيرة للبيئة المكانية المحيطة بها اجتماعيا، وزراعيا، واقتصاديا، وألمحت إلى ما يدور في البيئة من أحداث بيئية تعود عليها المجتمع القروي في عاداته وتقاليده، وبعض المواقف الجارحة ليس أقلها لدغة الثعبان، أو قرصة العقرب، وأشارت إلى كل ما هو ممكن الحدوث في بيئة قروية تنزع إلى الابتعاد عن المدنية الزائفة لتبقى القرية بكامل زينتها وبهائها وبياض أهلها، ونقائهم، يتجلى ذلك في بعض قصص المجموعة مثل حالية اللبن، وفاطمة، ثم تشعرك بتطور أدواتها كلما تعمقت أكثر في قراءتها، حيث القصص القصيرة جدا، التي يقول عنها النقاد في الأصل أنها تعتمد على الومضة المركزة واللغة الشاعرية المكثفة، وكاتبتنا لا تخلو قصصها القصيرة جدا من ذلك.. المجموعة تقع في خمس وسبعين صفحة من القطع المتوسط، ومحتوى مفهرس بعدد ثلاثين قصة تتراوح بين القصة القصيرة والقصيرة جدا يتقدمها الإهداء الجميل إلى حالية اللبن شريفة، وكل حاليات اللبن في قرى تهامة والسراة، وقد أنصفتهن كفى بهذا الإهداء، وإلى كل أدباء عسير وأديباتها، وختمت المجموعة بقصة جميلة بعنوان: «علوة»، كتبتها باللهجة المحلية الدارجة في السراة، وللحق فقد أبدعت جدا في رسم ملامح الفتاة القروية العسيرية التي تهتم بالبيت وبكل تفاصيله الصغيرة، وتساعد أمها وأخواتها وأهلها وتحب وتنحب، وتتعرض أيضا ل«قبصة حنش» فتموت.. لم تكن كفى «اسماً تكميلياً» في الحياة، أو في عالم القصة، بل هي قلم قادم إلى الساحة الأدبية بما تمتلكه من أدوات كتابية، ومقومات أدبية، ننتظر منها مزيدًا من الإبداع في قادم الأيام.. فشكرا للكاتبة على إبداعها، والشكر موصول للنادي الأدبي الذي منحنا فرصة قراءة كفى عسيري.