الفساد يلتهم جزءاً كبيراً من أموالنا، وهو من أخطر أمراض الشعوب، بل أكثرها انتشاراً، وهو محصور عندنا في قطاعات معينة، ذات علاقة بمجال الإدارة المالية والمحاسبة وما شابهها، وعند من يغلِّب مصلحته الخاصة على حساب المصلحة العامة. والفساد بأشكاله المختلفة، ما ظهر منها وما بطن، من رشوة ومحاباة ووساطة وتزوير وابتزاز، يؤلم المؤسسات، ويدمي القدرة المالية، ويغتال مقدرات نماء الوطن ورخاء المواطن، وهو ملأ “الديرة” وشغل الناس. وإن كان للفساد درجات، لكنه كابوس مزعج، فهو لا أب له، ولا وطن، كما يقولون، أبناؤه معنا ولا نستطيع القبض عليهم، وهم أمامنا ولا نستطيع اللحاق بهم، تراهم وكأن على رؤوسهم الطير، أو هُم كنبات الظل الذي لايقوى على الشمس، وسيقعون في الفخ عاجلاً أم آجلاً. إن انتشار ظاهرة الفساد في بعض المؤسسات، قد جعل بلادنا في مراتب متراجعة كما ذكرت منظمة الشفافية العالمية، حيث جاءت المملكة في المرتبة 78 من بين 160 دولة في العالم، حسب تعريفها للفساد المتمثل في انعدام الشفافية. والفساد في معاجم اللغة، هو من (فسد) ضد (صَلُح) ويقال فسد الشيء، أي بطل واضمحل، ويأتي حسب موقعه وليس له مصطلح معين. والمفسد هنا، هو بعض أبناء هذا الوطن، وطن الإسلام ووطن السلام، أعطوا المكانة ولكنهم لم يقدروا المسؤولية، وأعطوا الثقة، ولم يحرصوا على الأمانة والخوف من الله، فكأن همّهم الأول والآخر هو رفع الرصيد، والتكسب من مقدرات الوطن، وهؤلاء قلة إذا قسناهم بغيرهم من الشرفاء، وفساد الأفراد لا يعني فساد الدولة، بل إن كشفهم دليل على الشفافية والنزاهة. وإذا كنا نكتب بمبدأ عقدي، وحس وطني، فلا هم لنا إلا إزالة الفساد عن الوطن، ودفع الظلم عن المواطن، وهو من واجبات وسائل الإعلام المختلفة، وإلا فالفساد لا يحتاج إلى رفع الكروت الصفراء، ولكنه يحتاج إلى رفع الكروت الحمراء، والعقوبات المغلظة. والحقيقة أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي أصدر خادم الحرمين الشريفين أمره السامي بإنشائها، لم يمض على إنشائها أكثر من سنة، ومع ذلك، قامت بجهود طيبة، بعكس غيرها من الهيئات الأطول عمراً منها، حيث بدأت في تنفيذ خطوات إجرائية، في توسيع نشاطها مع عدد من الجهات الحكومية، لإيجاد آليات ذات شفافية عالية في الكشف عن الفساد، شريطة أن يكون موثقاً بالأدلة، من غير ضرر ولا ضرار. وقد تصدت الهيئة للكثير من المخالفات، بالتعاون مع غيرها من الجهات الرقابية، ولعل من جهودها الأخيرة، نظام تطبيق أحكام المساءلة المنصوص عليه في الشريعة الإسلامية، وعرفت بالذمة المالية، التي رفعت إلى مقام خادم الحرمين الشريفين رعاه الله لإقرارها إن شاء الله. فلا نقسوعليها الآن، قبل إعطائها الفرصة الكاملة لتفعيل دورها، والصلاحيات السانحة لمتابعة اختصاصها بالرغم من تطلعاتنا الكبيرة. ومن النماذج المشرقة في تاريخنا، نذكر مثالا: عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله، حيث كان يصوم ويفطر على البقل، وكان في أغلب وقته يغمس الخبز بالدقة ويأكله، وقد أهدي إليه طبق فيه تفاح فرده، ولم يأكل منه شيئا، فقيل له: ألم يكن رسول الله يقبل الهدية؟ قال: بلى، ولكن الهدية لرسول الله عليه السلام، هدية، وهي لنا، ولمن بعدنا، رشوة.