يظهر الإسلام من أشمل الديانات وأوفاها من حيث العناية بتفاصيل الإنسان ودقة تشكيل أخلاقياته؛ وفي منظومة الصوم تتجلى كماليات تربية الذات مع بعضها بعضا بأقل درجة من درجات التناقض المتوقعة ما بين الانسياقية بالاتباع والخروج بالابتداع، فنجده يحافظ على الخيط الرفيع بينهما في مطلق العبادات والتكليفات الدينية، فتارة يحترم منطقية العقل وتارة أخرى يراعي استطاعة الجسد ولا يغيب عنه أبدا تقنين ممارسة الحواس، ومن عجائب تلك الفريضة أن هدفها لاحدود له، بل تتجذر معاني البذل والعطاء والرحمة من تجويعها الإرادي، حيث ابتغت النفس الفقر طوعا لتكبح بمحض إرادتها غرورها، وتكبل قدرتها على الحصول على رغباتها بمشاركة المحرومين حرمانهم وفقرهم. والمعروف أن عدم إشباع الحاجات الفسيولوجية لدى الإنسان يصيبه بالإحباط والحزن، وهنا تبرز المفارقة الإسلامية العظيمة. فالصائم لا يمرض نفسيا من الحرمان الجسدي، بل يصح بدنه بالتوازن الروحي ليرقى إلى منازل الملائكة بترفعه عن الرغبات، ويقوى بالتوازن المادي بابتعاده عن حيوانية الشهوات وهيمنة الجسد. الصوم أكاديمية سماوية تعلمنا كيف نستلذ بقرصة الجوع والعطش مع امتلاء خزائننا ، لنتطهر من حب الدنيا ونعي أن هذا الجسد زائل صائر للتراب والبقاء للعمل الصالح؛ هي تربينا متى نظهر النعم على أنفسنا ومتى نحرمها منها، وأن نحترم الآخر مهما كان مقامه أو وظيفته، فنحن وإياه على حد سواء في الحاجات والقدرات ولا يحق أن نعلو أو نطغى بما تفضل الله علينا. الصيام ليس فقط ترك الطعام والشراب، بل هو تعبير بحزم وإرادة عن إيماننا وإن خالف المعقول، لندرك بذلك الرسالة الربانية «آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا». نحن مع الصيام نعطي القلب فرصة للشعور، والعقل فرصة للتدبر، والحواس فرصة لممارسة الحرية بإرادة جبارة تختار الجوع لترقق القلب الساهي، وتطهر البطن المنتفخة بالشهوات.