وقع التفجير قُبالة بوابة المسجد مباشرة. لكنّ جذعه العلويّ لم يُعثر عليه إلا على مسافة 150 متراً، في ردهة منزل من منازل حيّ العنود. قوة الانفجار أطارت جذع الشهيد محمد جمعة الأربش كلّ هذه المسافة، ليمتلئ سُكّان المنزل بالذعر والرعب، وينتشر فيديو يوثّق الحالة الميليودرامية الأليمة. لكنّ الألم، على شدّته، تحوّل إلى مصدر فخر ببطولة الشهيد محمد، وبطولة شركائه في الشهادة: شقيقه عبدالجليل وابن خالته محمد العيسى، وهادي الهاشم. صاحبة المنزل وضعت سلالاً من الورد في المكان، وابن الشهيد محمد، علي، ذهب إلى حيث استقرّ جذع أبيه، ليسجّل فخره به. خالة الشهداء الثلاثة أم سيد أحمد العوامي تروي ل «الشرق» قصة استشهاد ابن أختها محمد الأربش 34 عاماً، أنه أب لطفلين الأول علي وعمره تسع سنوات، وعبد الله «أربع سنوات»، أن لحظة ما سمع صوت أخيه عبدالجليل يصرخ من خارج المسجد «أطلع»، هرع محمد خارج المسجد رغم أن كوادر المسجد قد أغلقوا الأبواب، وكشفت كاميرات تسجيل المسجد أن محمد جثى فوق صدر الإرهابي المحزم بحزام ناسف، وعبدالجليل أمسكه من يديه، والسيد هادي الهاشم أمسكه من رجليه، ومحمد جاء يركض لهم للمساعدة لكن الحزام انفجر. تذكر الخالة أن السيد هادي كان لحظة اكتشاف الإرهابي خارج المسجد مع طفله الذي كان يريد ماء، وعندما سمع صوت عبدالجليل، أدخل ابنه المسجد وأغلق الباب خلفه، وأن ابن أختها الآخر البن عيسى أتى لمساعدتهم وتناثرت عليه الشظايا واحترق جسده، وحاول المسعفون إنقاذه ولكنه فارق الحياة. وتضيف: علمنا على الفور استشهاد الثلاثة عبدالجليل وابن خالته محمد البن عيسى والسيد الهاشم، وبقي محمد لم يعرف عنه أحد، وكنا نظن أنه قد التجأ إلى مكان ما، استحياء من مواجهة أمه المفجوعة لأنه يخاف عليها كثيراً ويتألم لحزنها وأنه سيعود عندما يفرغ شحنات حزنه، مشيرة إلى أن الشهيد محمد عرفوا عنه أنه يكتم أحزانه ودموعه بعيداً عن أعين الآخرين، لكن أمه كانت تقول: قولوا إن محمد استشهد ولا تقولوا لي إنه مفقود. وتتابع: عندما عرفنا في وقت متأخر أن بقايا الجثة التي عثر عليها في فناء أحد المنازل القريبة من المسجد، تعود لابن أختي محمد، شكرت أختي الله ساجدة تقول: خذ يا ربي حتى ترضى»؛ لأنها تعلم أن تربيتها لن تذهب سدى، ربتهم على الإيثار والتضحية، وقد رفعوا رأسها عالياً بين كل الأمهات. وعن قصة استقرار جسد الشهيد في فناء منزل السيدة كما روتها لهن الجارة، تقول إن جزءاً كبيراً من جسد محمد ارتطم بنافذة الدور الثاني، من قوة الانفجار حتى سقطت على الأرض إلى الدور الأول أشلاء لا تعرف لها ملامح، وبقية أشلائه تناثرت في فناء المنزل. وتواصل: دخلنا أمس الأول منزل المرأة التي سقط داخل منزلها الجزء الأكبر من جسد الشهيد محمد الأربش، وصرخت مفجوعة «شوفوا الدم في بيتي حسبي الله ونعم الوكيل..»، زينت فناء منزلها ومكان استقرار بقايا جسد الشهيد بسلال من الورد والرياحين، إكراماً له ولعمله البطولي الذي قام به، وأنها تعتزم أن تظل هذه الورود في مكانها، مشيرة إلى جدران المنزل الثلاثة لا يزال يحتفظ ببقايا دم الشهيد، رغم عملية تغسيله وتنظيفه. وعن الشهيد محمد تحكي أنه كان يعمل إدارياً في وزارة الصحة، حنوناً على أبنائه وأبناء غيره، عيناه لا تفارق أبنائه، كنا نسميه «خرخاشة البيت» فهو لم يكن يهدأ من إضحاك الآخرين ونشر الابتسامة والسعادة على وجوهم، رغم همومه ومشكلاته، وكان حريصاً على زيارة والدته بشكل يومي، يأتي لزيارتها ومساعدتها، ويشعر بالتقصير تجاهها، يبكي في الظلام دون أن يشعر به أحد. وتوضح أن الشهيد كان يسمى «الجندي المجهول»، قليل الكلام في الفترة الأخيرة، كثير العبادة، لكنه لم ينطوِ على نفسه، كان يجالسنا إذا تجمعنا تاركاً كل مشاغله، حساس جداً بالآخرين، ويتألم لهم، ويحب مساعدتهم. وتلفت إلى أن أختها الكبرى أم الدكتور طاهر هي أم الشهداء الثلاثة محمد وعبدالجليل، وابن أختها محمد البن عيسى الذي ربته صغيراً وعمره لا يتجاوز الثلاث سنوات بعد أن تركته أمه، تفتخر اليوم بهم، هي بطلة بحق لم تجزع ولم تعترض على قضاء الله وحكمه، هي تبكي اليوم شوقاً للثلاثة الذين تركوها، حامدة الله تعالى، كيف وهي من كانت قبل أيام تجهز لحفل زفاف ابنها عبدالجليل، بعد شهر رمضان المقبل، وتُرتب جميع الحجوزات بسعادة خاصة أن عبدالجليل جاء هذه المرة من الغربة ليجلس معها ثلاثة أشهر وحمل معه كل ملابسه ولم يُبقِ شيئاً منها هناك. أما عن الشهيد محمد البن عيسى ابن أختها الأخرى، تقول عنه إنه تربى في حضن أختها الكبرى أم طاهر وعمره لا يتجاوز الثلاث سنوات، ربته مع أبنائها، كما أحسن والده تربيته، لافتة إلى أن أبناء أختها الموجودين الآن ثلاثة هم الدكتور طاهر، وفني الأسنان علي، وزينب. وتشير إلى أن الثلاثة الشهداء كانوا كوادر في مسجد الإمام الحسين بحي العنود منذ نعومة أظفارهم، وعبدالجليل لم يترك العمل التطوعي أبداً وخدمة الآخرين رغم ابتعاثه خارج الوطن، كان يشترك في الأعمال التطوعية بكل رحابة صدر. وتقول: قبل يوم الحادثة قال محمد لأخيه عبدالجليل ممازحاً: «الدواعش قادمون أنت قدها!».. رد عليه عبدالجليل: «قدها ونص»، نحن فخورون بهم وشكراً لهم لأنهم رفعوا رؤوسنا عالياً من مثلنا.