ذكرتُ في كتابي «تأمل» الذي تبنت دار العلوم العربية طباعته وتوزيعه، ما توصلت إليه من معارف قادتني إلى قاعدة مهمة هي أصل معظم السلوك البشري إذا لم تكن جميعها، وهي التي تحدد هوية الإنسان واتجاهاته وسلوكاته، وهي التحصيل المعرفي لديه والمعارف المُكتسبة خلال دورة حياته التي سكنت عقله وأدلجت فكره وسيَّرت سلوكه، نافعاً كان أم ضاراً، إيجابياً كان أم سلبياً، بانياً أم هادماً، مؤمناً كان أم كافراً. بينما ينشغل العالم في هذه الحقبة بالإرهاب ومحاربته والتصدي له، تجاهل محاربوه أنماط العلاج وأسس التحصيل المعرفي فيه، التي تنص على أن العلاج يبدأ بمعرفة المسببات، «جذورِها وأصولها ومنشئها وآلية تكاثرها»، بحثاً عن مضادات تقتلع الجذور. ففي كل حياة الإنسان تترجم معارفه وثقافاته كل حِراك حياته حتى نفسيته ومزاجه، فما الذي يجعل الإنسان يتجه إلى السوق مثلاً إلا لمعرفته بنقص في احتياجات منزله، ولماذا يتجه جماهير نادٍ معين في يوم معين مبكرين إلى الاستاد الرياضي؟ لمعرفتهم بموعد مباراة فريقهم، ولماذا تبتسم عند سماع خبر معين وتتضايق عند معرفة خبر مضاد. ولماذا توبخ أحد أبنائك دون إخوته إلا لمعرفتك أنه ارتكب حماقة ما، ولماذا تتفق السياسة والدين على محاربة المخدرات «وهو الشيء الوحيد الذي اتفقا عليه» إلا لمعرفتهما بأضرارها، ولماذا حارب العالم الإرهاب إلا لمعرفتهم بسلوك القتل والدمار فيه، تلك القاعدة المعرفية وغاياتها التي تُسيِّر كل سلوك البشر، فلكل سلوك معارفه الخاصة، وهو أصل ظهور السلوك الإرهابي وجذور منشئه. لذلك وقبل أن أخوض في جذور معارف الإرهاب الذي يُعتبر سرطان العصر ومصيبة الأمة، كان عليَّ تعريف الإرهاب أولاً، تعريفاً واقعياً لأحداث تلامس سلوكات هذا النسق المقيت والممقوت ونتائجه، فما هو الإرهاب؟ سلوك نسقي دموي، مضاد لمعارف الأديان ومناقض للطبيعة البشرية وسيكولوجية الإنسان. فكل سلوك مدمر للإنسان والمكان يعتبر سلوكاً إرهابياً، وكل سلوك جائر وخارج عن إنثروبيولوجية الإنسان وسيكولوجية البشر وطبيعة الحراك الإنساني على كوكب الأرض هو سلوك إرهابي كمصطلح معرفي يصف واقعاً معيناً وسلوكاً ملموساً مكتسباً. كانت تلقى قاعدة معرفية للتعريف بماهية الإرهاب. اتفقنا على كونها سلوكات ممقوتة ومدمرة تصف الإرهاب وتميِّز الإرهابيين، وبقليل من التأمل في تلك المعرفة كان علينا الغوص في جذور مسببات تلك السلوكات لمعرفة أصولها، التي تسببت في أصل منشئها، لذلك نجد أن تلك السلوكات اللاإنسانية لم تأتِ من فراغ وإنما هناك أصول بدأت منها وجَّهت وسيَّرت ذلك السلوك الإجرامي، هي المعرفة وغاياتها، فلم يُخلق الإنسان إرهابياً. وإلا كيف استطاعت شعوب العالم الآخر أن تعيش بحب وسلام وإبداع وإنتاجية رغم اختلاف أديانها ومعتقداتها بكافة طوائفها وأحزابها وجماعاتها. فإن أردنا عالماً سالماً ومسالماً علينا أن نزرع بذور معارف البناء والسلام والعناية بتربتها لنحصد ثمار سلوكاتها، ونبذ كل معارف العنصرية والطائفية ومحاسبة مروجيها، لتحصد ما زرعت. فتلك المعارف المُعنصرة والمؤطَّرة في إطارها الديني المُمصلح أو المُسيس الذي استرضعه الإنسان على أساس أنها معارف صحيحة هي من بلورت سلوك الإرهاب لديه وترجمت كل نسق سلوكي سلبي لحِراكه مع إنسان مجموعته داخل وطنه أو مع إنسان العالم على كوكب الأرض.