هكذا هي سنة الحياة لابد من نهاية يختتم بها المرء مشواره المهني، وخير نهاية هي تلك التي تأتي بعد أن يصل صاحبها إلى أقصى ما يمكن أن يتمنى تحقيقه كل طامح لخدمة دينه ومليكه ووطنه، فما بالك بمن تجاوزت نجاحاته أبعد مما يطمح إليه أكثر أهل الأرض طموحاً ومثابرة، وهذا لا يتسنى إلا لقلة من البشر. وحسبي أن عميد الدبلوماسيين العرب واحد منهم بكل جدارة واقتدار. في هذا المقال لا أنوي الحديث عن تاريخه وإنجازاته كي لا أشعر بالتضاؤل والاضمحلال أمام قامته السامقة، فكل ما يمكن أن أرويه عن مواقفه ونجاحاته الباهرة لن يضيف لما قيل وسيقال عن هذا الرجل الفذ والمتفاني في خدمة قيادته ووطنه، إلى الحد الذي جعل من جسده عرضة للإعياء والإنهاك المستمر. لقد تعلمت طوال سنوات عملي تحت قيادته ودون أن ألتقيه ولو لمرة واحدة، أن التفاني والإخلاص هما أقل ما يمكن أن يقدمه المواطن الصالح إلى وطنه، وهي فلسفة صارمة وحازمة لا تطيقها إلا النفوس التي تسامت في غاياتها وآمالها عن زخرف الحياة الفانية. هكذا عود نفسه طوال أربعة عقود على تلك الفلسفة التي ورثها عن أبيه عن قناعة ورضا دون أن يتخلل فترة عمله الطويلة جداً أي نوع من أنواع التذمر أو الملل، حيث كان نموذجاً للانضباط والتضحية لأجيال متعاقبة تحت إدارته. حين تناهى إلى سمعي خبر موافقة المقام السامي على قبول طلب عراب سياستنا بإعفائه من منصبه، داهمتني الذكريات فجأة دون مقدمات، تذكرت المرة الوحيدة التي شاهدت سموه عن قرب وهو محاط بلفيف من المساعدين والمرافقين، ترددت حينها كثيراً من أن أتجرأ على كسر قواعد البروتوكول من أجل أن أحظى بشرف السلام عليه. لقد ندمت لاحقاً أشد الندم لأنني لم أنتهز تلك الفرصة الثمينة وأخذت ألوم نفسي على إضاعتها لوماً عسيراً، ما زلت أشعر به كلما تذكرت ذلك الموقف. لم يكن سبب ترددي خشية من ردة فعل مرافقيه، بل كان السبب الوحيد الذي جعلني أتسمر في مكاني لبرهة من الزمن، هي هيبته التي ملأت أرجاء المكان رغم ما اشتهر به من دماثة الخلق وطيب المعشر، وهي من الصفات التي يشترك بها قادة بلادنا المباركة، والهيبة كما هو معروف صفة من صفات العظماء الذين مهما رأيت منهم من تواضع وأدب إلا أنك تشعر في حضرتهم بانحباس الأنفاس توقيراً واحتراماً لذواتهم رغم ما يبدونه من لين ومرونة. لقد عادت بي الذاكرة إلى الوراء حيث البدايات، حينما كنت أتتبع الحكايات والمواقف التي كان يقصها بعض الزملاء من واقع التجربة والمعايشة مع سمو الوزير، وكيف أنه لم يكن يكل من حمل الملفات الشائكة لا في الأرض ولا في السماء، لدرجة أنهم يخجلون من أنفسهم حين يتمكن منهم التعب والإرهاق وهم يرون رأس الهرم يذرع المكان جيئة وذهاباً، دون أن يبدي تبرماً أو انزعاجاً بسبب قلة النوم والراحة، رغم تكالب الأوجاع والآلام على جسده النحيل. إن من الوفاء أن يُكرم من أفنوا حياتهم في خدمة الدين والقيادة والوطن، وأعظم تكريم لهؤلاء هو أن تخلد سيرتهم على طريقة العظماء، الذين سُميت بأسمائهم الجوائز والقاعات وأقيمت لهم المحاضرات والندوات في مختلف المناسبات والأحداث، فكيف حينما يكون من يستحق التكريم بحجم وقامة سعود الفيصل؟ إن الوزارة التي تأسست وتشكلت معالمها على يديه معنية بالدرجة الأولى في اتخاذ زمام المبادرة في تكريمه بصورة تليق بتاريخه الحافل بالمواقف المشرفة. لقد أثارني نبأ رحيل فارس الدبلوماسية السعودية عن معشوقته، التي لطالما جعل حضورها لافتا للأنظار في كل المحافل والمؤتمرات الدولية، حيث وجدت نفسي منساقاً خلف مشاعري التي تجسدت في الأبيات التالية: عن مجدك الشمس ما غابت ولا ارتحلت يا من ملأت الفضاء الواسع الرحِب أنت السماء وأنت الأرض ما رحبت وأنت في عتمة الأفلاك كالشُّهب من مشرق الأرض شع النور وابتهجت حدائق الغرب وانشقت له الحُجُب أتيت تحمل قنديلا به انبلجت أمجادنا رغم ما في الجو من سُحُب إليك سقنا زمام الفكر فانتصرت على يديك سياساتٌ بلا لُجُب لو لسياسة عراب فما قبلت سواك يا ابن الملوك الهادئ الصخب