إنه قوي البنية شجاع وأمين، وذو نجدة وشهامة، لكنه ذات يوم دخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد رجلا من قومه يقتتل مع رجل من أعدائه، فاستغاث به الذي هو من قومه، ودون سؤال أو تحقيق أو محاولة للصلح أو التهدئة فزع لنجدته وضرب الآخر ضربة أودت بحياته. لكن ضميره حاصره، كيف تستخدم قوتك في القتل دون برهان؟ كيف تستجيب لثورة بدنك ضد رجاحة عقلك؟ كيف تغلبك نفسك على الانتقام لمجرد رؤية رجل من أعدائك ؟ فندم وعاهد نفسه وربه ألا يعود وألا يستخدم قوته إلا في نصرة الحق. ثم وللأسف غلبته نفسه واستجاب مرة أخرى لداعي النجدة دون تبيان رغم أن صرخة العقل تناديه هذه المرة أن صاحبك هذا الذي تنصره للمرة الثانية ليس صاحب حق وإنما هو مثير فتن ومشعل خلافات، وهَمَّ أن يقتل للمرة الثانية. ولكن كلمة خرجت أنقذت الموقف وأوقفت القتل وفضحت سر الأمس ونزلت على رأسه كالصاعقة، وجاءه النذير، عليك أن تهرب الآن فأنت مطلوب وسيقتلونك. فخرج خائفا مسرعا وترك الديار كلها وهاجر هجرة طويلة. والسؤال: هل تكفيه قوته البدنية وضميره المعاتب وأمانته وشجاعته ونجدته لأن يكون أميرا على قومه وقائدا لهم في وجه الظلم والطغيان؟ هل تكفيه وسائله الفردية الشديدة المعتمدة على ردود الأفعال لتوصيل أفكاره ونشر مبادئه، أم أنه يحتاج صفات الأمراء قبل أن يتأمر، ومناقب القادة قبل أن يقود؟ هل تكفيه أهدافه القريبة الجزئية البسيطة في نصر فردي سريع لا يبني كيانا للحق في مواجهة كيان الباطل؟ هل القيادة بالساعد والقوة، أم بالعقل والحكمة والرحمة؟ هل هو بهذه الصفات يستطيع أن يقول لفرعون الجبار الطاغية (قولا ليّنًا)؟ وكان الجواب من الله تعالى، لكن جواب الله جواب عملي، فإرادة الله للبشر تختلف عن إرادة البشر للبشر. لقد جهز الله له بيئة جديدة صالحة هادئة صابرة ليتعلم ويتربى فيها على الصبر والهدوء والحوار والتأمل، وليكتسب صفات ومهارات تجعل منه أميرا وقائدا قادرا على التغيير والبناء بعد أن كان شابا انفعاليا تثور عواطفه عندما يرى المنكر ويهيج وجدانه ولا يحسب لردود أفعاله. ولقد استقبلته البيئة الجديدة بكلمة (يا أبت استأجره) فهو الآن أجير. ألقى الله تعالى به في أحضان زوجة أقل ما توصف به أنها صابرة ليتعلم منها الصبر، فهي شربت الصبر كؤوسا وكابدت مشقة رعاية أبيها الشيخ الكبير ومشقة رعاية قطيع الغنم ومشقة رعاية نفسها وأنوثتها وحيائها ومشقة افتقار البيت إلى رجل يقوم على شؤونه الشاقة ويكابد الرجال والرعاء ويحميها من هذا العناء اليومي الطويل. ألقى الله تعالى به إلى قطيع من الغنم يرعاها ويحميها ويطعمها ويسقيها ويحلبها ويتعلم معها التجميع لا التفريق ووحدة الاتجاه لا التشتت ولا التشرذم، ويشرب منها الرفق بالضعيف والعدل في العقوبة، فليس معنى أن تشرد شاة أن يكون عقابها القتل، وإنما حقها أن تُرشد إلى الطريق السليم، وأن تُعاد إلى كنف القطيع، وأن تُحمى من الذئب، وإلا فما الفرق بين أن تموت الشاة الشاردة بعصى الراعي أو بأنياب الذئب؟ ألقى الله تعالى به في بيئة بعيدة عن الصراعات؛ فبيئة الصراعات لا تنجب إلا المصارعين، والغاية التي يصنع الله موسى لها غاية المرسلين لا المصارعين. عشر سنين كاملة يتعلم نفس الدروس كل يوم ويتشرب نفس الصفات كل يوم فيتصبر ويتحلم ويهدأ طبعه وتلين كلماته وترق مشاعره وتسمو نفسه لأنه بأصل تكوينه صالح وسكن إلى زوج صالحة وأب لها صالح، فاجتمع لموسى عليه الصلاة والسلام النفس الصالحة والبيت الصالح والعمل الصالح. وانتهت الدورة التدريبية الدعوية الربانية التي قال الله عنها (ولتصنع على عيني). وأصبح موسى الآن قويا في بدنه، قويا في نفسه، قويا في صبره، قويا في عقله وحجته، قويا في أهدافه. وآن الأوان لقطف ثمار التربية الصالحة المتكاملة الأركان، آن الأوان أن يكون الأجير أميرا. لقد أصبح جاهزا لأن يكون هو الوحيد من بين البشر الذي يناديه الله من فوق سبع سماوات بذاته سبحانه وتعالى. هو الآن الأمير القائد. هو الآن يستطيع أن يواجه فرعون ذاته ولكن يقول له قولا لينا لأن الهدف أصبح ساميا عاليا. ونجح في المهمة نجاحا ربانيا مبهرا معجزا. هكذا بالتربية تحول الأجير إلى أمير. هكذا يجب أن يكون الشباب والدعاة على صورة من موسى الأمير بعد أن كان موسى الأجير.