لا أدري هل نحن نضحك على أنفسنا؟ أم أننا نتلذذ بإدمان طريقة تفكير تراوح مكانها تجعلنا فقط ننتشي بما نملك من آراء لم تغير واقعاً على مدار العقود الماضية؟. فهؤلاء مجموعة من الكتاب وقادة الرأي يظنون أن وزير الصحة لا «نظام الصحة» هو ما يمكنه تغيير الخدمة إلى الأحسن وإني أسأل كيف يمكن لشخص الوزير عند تغييره أن يحدث تحسينا في مستوى طبيب في تبوك أو جيزان أو عرعر؟ وكيف يمكن لشخص الوزير أن يضمن مخرجات فنية سعودية مؤهلة وآمنة طالما أن التوظيف مبني على معايير ليس من ضمنها جودة التأهيل. وعندما يزور مسؤول في الصحة منطقة طرفية، ألم يقرأ في الصحافة ومواقع التواصل ما يريده الناس وبالتالي يتوقع كيف سيستقبلونه؟. وزارة الصحة مع المناطق الطرفية في أزمة حقيقية، ومع الأسف فإن التعاطي مع هذا الواقع يتم بطريقة لا تغادر ذات الأداء منذ سنين. لقد كان وزير الصحة الأسبق الدكتور عبدالله الربيعة شفافاً جداً حين اعترف بعدم قدرته على توفير كفاءات متخصصة بتأهيل عال للمناطق الطرفية بسبب رفض هذه الفئات العيش هناك. لكننا بحاجة أيضا إلى اعترافات أخرى يمكن بعدها وضع خطة عمل بأفق واضح سيطول أمده حتما نظراً للصعوبات المتوقعة، لكنه يظل أملاً ينتظر وهذا خير من أن تبقى الأمور كما هي الآن بلا أفق، بلا مستقبل محدد المعالم. على وزارة الصحة الاعتراف بمركزيتها القاتلة للأطراف، فتتعجب مثلاً من تعميم لحل مشكلة نقص التخصصات الدقيقة في الأطفال في مستشفيات الولادة عبر تغطيتها من المستشفيات الكبرى المجاورة، وهذا التعميم يصلح لجدة والرياض لكنه سيفشل حتما في تبوك والجوف لأن تلك المناطق تفتقد أصلا لهذه التخصصات الدقيقة وتسأل السيد تعميم عن سبب وصوله هناك. وعلى الوزارة الاعتراف بتشظيها وانقسامها على نفسها فهذه الشركة التي تعاقدت معها الوزارة لخدمات الغسيل الكلوي التي بدأت خدماتها في المدن الكبرى -كالعادة- أصبحت تخطف أطباء الكلى من المناطق الطرفية برواتب أعلى لتصبح هجرة بطعم مر يتذوق نتيجته المرضى هناك. لماذا لا تضع الوزارة خطة ملزمة لجغرافيا القطاع الخاص في المناطق الطرفية -ولطالما استطال الحديث عن التأمين- بحيث تضمن خدمة بمعايير لائقة بدل كل هذه الفوضى من دكاكين القطاع الخاصة المفاقمة لمعاناة المرضى هناك؟ كيف يمكن أن تفسر الوزارة تعثر مشروع المختبر المركزي في منطقة ما لسنين وتظل التحاليل المتخصصة شهوراً رهينة المختبر في منطقة أخرى وهل ينتظر المريض؟ وهل ينتظر الطبيب؟ ولماذا لا تشتري الوزارة خدمات المختبرات للتحاليل التخصصية لصالح تلك المناطق، فهذا أجدى اقتصاديا واجتماعيا من تحويل مئات المرضى للرياض وجدة لغرض التحاليل المخبرية؟ نعلم جميعاً بثقل التركة، والثقة في الدولة ورجالاتها لا تهتز لكن الإشكال أن الواقع الخاطئ تتم معالجته بأساليب لا تصلح، ويزيد الطينة بلة أن المتغيرات السريعة في المجال التنموي ومتطلباته لم تستثمر حتى الآن والسبب هذا التشتت في تقديم الخدمات الطبية على مستوى الوطن وهو مسؤولية مجلس الاقتصاد والتنمية لمعالجته كأولوية قصوى، وقد أشرت إلى طرف من هذا في مقالات سابقة ولعل آخر مقال بحث في مجال التنمية البشرية الطبية ومعاناتها من الشتات. لا يمكن التغاضي عن دور إمارات تلك المناطق السلبي حيال التنمية الصحية في مجالها، ولا يمكن إنكار دور الإدارات الصحية المحلية في المناطق الطرفية في مضاعفة الخلل، بل ولا أبرئ ساحة المجتمعات هناك وثقافتها من سوء تقديم الخدمة والاستفادة منها على حد سواء، لكن كل ذلك يمكن التغلب عليه بفكر إداري حديث يحمل سمتين أساسيتين، الأولى هي المرونة التي تقتضي العمل بروح النظام لا نصه المصادم لكثير من احتياجات المرضى، والثانية هي القدرة على تحييد الثقافة الشعبية التي يتلبس بها موظف الصحة وهذا لن يتم وفق الأداء الإداري الحالي.